كتب جيرار ديب في العربي الجديد: أعلنت وزارة الخزانة الأميركية، الخميس 17 أغسطس/ آب الجاري، أن الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا فرضت معًا عقوبات اقتصادية بتهم فساد مالي على الحاكم السابق للبنك المركزي اللبناني رياض سلامة، الذي غادر منصبه من دون تعيين خلف له. وكانت العقوبات الأميركية على سلامة مفاجئة، إذ ظنّ بعضهم أن ثمّة غطاءً أميركيًا كان على أدائه، فاعتبروه خارج دائرة المحاسبة. وقد أعطت العقوبات هذه اللبناني أملًا بأن البدر لن يُفقد في الليلة الظلماء، وأن الغطاء قد رُفع عن سلامة بعد نهاية ولايته، وأن من كان متورّطًا معه في الصفقات “البونزية” لنهب المال العام وسرقته وتهريبه سيطاوله سيف العقوبات.
ما زال لبنان يعيش على وقع صدماته الاقتصادية والاجتماعية، وحتى الأمنية، وسط غياب تام لدور الدولة عن محاسبة من كان السبب بإيصال لبنان إلى جهنم.
لهذا أخذ تقرير التدقيق الجنائي النهائي الصادر عن شركة “ألفاريز أند مارسال” طريقه إلى القضاء، مع تسلّم النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات نسخة منه رسميًا، مشفوعًا بطلبين لفتح تحقيقٍ في ضوء ما ورد من هدر أموال في المصرف المركزي إلى مؤسّسات الدولة وأفراد وجمعيات.
كان الطلب الأول عن طريق كتاب وجّهه إليه وزير العدل، طلب منه اعتباره بمثابة “إخبار بحقّ كل من تمّ ذكره في التقرير وكل من ساهم وشارك واستفاد”.
وسبقه طلبٌ آخر من رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود الذي وجّهه في كتابه إلى ثلاث هيئات قضائية، هي النائب العام التمييزي ورئيس هيئة القضايا في وزارة العدل، وإلى التفتيش القضائي، لاتّخاذ الإجراءات القضائية بالاستناد الى ما ورد في التقرير، تمهيدًا “لتحديد المسؤوليات الجزائية والمدنية على أن يكون التدبير شاملًا ومن دون استثناء”.
تبقى العبرة في “التنفيذ” وليس في الادّعاء، إذ يُعتبر حاكم مصرف لبنان المنتهية ولايته رياض سلامة، بمثابة “صندوق باندورا”، لما يحويه من أسرار ومعلوماتٍ تتعلّق بمنظومة إدارة البلد أكثر من 30 عامًا؛ في داخل هذا الصندوق هندسات مالية، وأرقام بتحويلاتٍ ماليةٍ إلى الخارج في ظلّ وقوع البلد في أزمةٍ ماليةٍ لم يشهد تاريخه مثيلًا لها
القضاء فتح التحقيقات اللازمة، ولكن المشكلة في عدم تمكّن الجهات الأمنية من إيجاد الحاكم كي تتولى تبليغه!
“صندوق باندورا” في الميثولوجيا الإغريقية هو صندوق حُمل بواسطة باندورا، المرأة الأولى على الأرض، يتضمّن كل شرور البشرية من جشع وغرور وافتراء وكذب وحسد ووقاحة، فهل سيفتح صندوق باندورا ويكشف عن جشع المنظومة الحاكمة وشرورها وكذبها؟ كما باندورا، حمل سلامة صندوقه وأخذ يهدّد به كل من يحاول اعتراضه بفتح الصندوق وكشف وثائقه التي يبدو أنها تدين كل من شارك في السلطة، الأمر الذي منحه حماية “فوق القانون”.
إذ رغم مذكّرات التوقيف الصادرة عن الإنتربول الدولي، والدعاوى التي رفعت عليه من القضاء اللبناني، والقضاءين الفرنسي والسويسري وغيرهما، إلا أن الرجل ما زال خارج إطار المحاسبة والتوقيف.
أفادت مصادر قضائية بأن القضاء فتح التحقيقات اللازمة، ولكن المشكلة في عدم تمكّن الجهات الأمنية من إيجاد الحاكم كي تتولى تبليغه بجلسةٍ يجب أن يحضرها في 29 أغسطس/ آب الجاري. وتردّدت المعلومات عن اختفائه في الآونة الأخيرة، واستحالة تحديد موقعه الإلكتروني المتصل بهاتفه الخلوي، وفق مصدر أمني.
ورجّحت مصادر عدة سيناريوات تطرح عن إمكان خروج سلامة من البلاد إلى جهة مجهولة، أو دخوله في صفقة تعاون مع الولايات المتحدة أو القضاء الأوروبي.
ومصادر أخرى مستمرّة في مفاوضة جهات محلية نافذة لضمان عدم توقيفه إذا حضر الجلسة، ولكن دون ذلك صعوبات، في مقدمتها العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة عليه، والتي يبدو أنها حاصرت من يؤمّن له الحماية.
على طريقة هروب كارلوس غصن من اليابان، قد تكون الطريقة لتهريب سلامة، وإقفال صندوق باندورا، إلى حين يأتي البديل عن سلامة ويحمل صندوقًا آخر لمنظومة فسادٍ أخرى
في الوقت الذي يمرّ، تمارس الدول الضغوط على لبنان من أجل القيام بالإصلاحات المطلوبة، لإعادة الثقة إلى مؤسّساته، ودعمه عبر صناديق داعمة، في مقدمتها صندوق النقد الدولي. وبينما المطلوب حضور رياض سلامة إلى التحقيق وفتح صندوق باندورا، يُفتقد، وتكثر التكهنات بشأن أماكن وجوده، ويتمّ تبليغه لحضور جلسات المحاكمات التي على أساسها سيستطيع القضاء فتح مغارات علي بابا والبدء بالمحاسبة.
في الليلة الظلماء يُفقد البدر، بينما في لبنان يُفقد سلامة، ويتغيّب بغطاء داخلي لعرقلة محاسبته، تمامًا كما سائر القضايا الرئيسية التي تدين المسؤولين، فها هو القضاء عاجز عن الاستمرار في محاكمة المتورّطين في قضية جريمة مرفأ بيروت، التي تمّت عرقلة مسارها القضائي من خلال تسييس القضاء، وتهديد القضاة المعنيين في متابعة التحقيقات، وفي مقدمتهم القاضي طارق البيطار.
لن يُحاكم سلامة، مهما تراكمت عليه الدعاوى ومهما صدرت بحقه مذكّرات توقيف، فهو كان “المحاسب” للمنظومة الفاسدة التي استحكمت في البلاد والعباد، وتقرير التدقيق الجنائي فضح كيفية تحويل الأموال من قبله وإلى من كانت تصل. لهذا، وعلى طريقة هروب كارلوس غصن من اليابان، قد تكون الطريقة لتهريب سلامة، وإقفال صندوق باندورا، إلى حين يأتي البديل عن سلامة ويحمل صندوقًا آخر لمنظومة فسادٍ أخرى، بينما المنظومة الحالية يُعفى عنها تحت شعار “عفى الله عما مضى”.
الشعار الذي حمى رؤساء المليشيات الذين قاتلوا في زمن الحرب الأهلية في لبنان منذ عام 1975، وأعيد إدخالهم في الدولة، فنهبوا في السلم ما لم يستطيعوا نهبه في الحرب.