مقالات

سوريا بين الأطماع التركية والطموحات الكردية

لم يكن تصدُّر تركيا لواجهة الأحداث في سورية جديدًا على المراقبين والجماهير، فقد كانت من أوائل الدول التي تحمّست لإسقاط النظام السوري، وظلت على مدى أكثر من 12 عامًا تحارب سورية، سواء على المستوى السياسي والدعائي، أو على مستوى التوغل العسكري ورعاية الجماعات المسلحة التي نجحت مؤخرًا في السيطرة على سورية بعدما ضربت “اتفاق آستانا” بعرض الحائط.

ونظرًا لتعدد المتآمرين الدوليين على سورية وهو ما أشار إليه الإمام السيد علي الخامنئي حينما تحدث عن توفر معلومات حول وجود غرفة عمليات أمريكية و”إسرائيلية” بمشاركة دولة جارة لسورية، خططت لما حدث، من المهم إلقاء الضوء على تقاطع مصالح هذه الدول وأجنداتها في سورية، مع التركيز على الأطماع التركية التي تكفلت بقيادة الأحداث.

ثمة تحليلات مختلفة للمصالح والأطماع التركية في سورية، يحصرها بعض المراقبين في الجانب الاقتصادي المتعلق بخطوط الغاز والطاقة، وبعضهم الآخر في الجانب التوسعي لاستعادة النفوذ التاريخي وإحياء الإمبراطورية العثمانية، وآخرون يرون  شمول هذه الأطماع لكل هذه الجوانب، مع وجود تقاطعات لمصالح تركيا والكيان “الإسرائيلي” وأميركا، بشأن هدف إستراتيجي يخدم الجميع وهو الإطاحة بالنظام السوري، لا سيما أن تركيا تشكل الجناح الجنوبي الشرقي لحلف “الناتو” الذي تتقاطع مصالحه العامة في سورية مع المصالح التركية الخاصة.

الأطماع التركية في سورية:

1- الغاز:

يعد ملف الغاز من أكبر الملفات التي أدت إلى اتخاذ تركيا بمشاركة قطر موقفًا معاديًا من نظام الرئيس بشار الأسد، بسبب تعارض خطوط الغاز، وخاصة التعارض بين خط الغاز القطري الذي يمر في سورية وصولاً لتركيا كمنفذ للتصدير إلى أوروبا، والخط الآخر القادم من الشرق مرورًا بالعراق وانتهاء بسورية كمنفذ للتصدير، بالإضافة إلى التنافس مع روسيا الحليفة لسورية وتأثيرات صادرات الخط القطري التركي على صادرات روسيا لأوروبا وهي ورقة ضغط مهمة في يد الروس.

هذا الملف كشف عنه الرئيس بشار في تصريحات لصحيفة “إيل جورنال” الإيطالية نهاية عام 2016، حينما قال:”كان هناك خطان سيعبران سورية، أحداهما من الشمال إلى الجنوب يتعلق بقطر، والثاني من الشرق إلى الغرب إلى البحر المتوسط يعبر العراق من إيران، وكنا نعتزم مد ذلك الخط من الشرق إلى الغرب..وهناك العديد من الدول التي كانت تعارض سياسة سورية، ولم ترغب بأن تصبح مركزًا للطاقة..”.

ويعتبر مشروع خط أنابيب قطر وتركيا الذي تحدث عنه الرئيس السابق بشار الأسد خط أنابيب غاز طبيعي يمتد من حقل غاز الشمال، شمال قطر إلى تركيا، حيث يمكن بعد ذلك ربطه مع خط أنابيب “نابوكو” لتزويد تركيا والزبائن الأوروبيين بالغاز، لكن سورية رفضت ٱقتراح قطر، ما دفع الأخيرة لدعم المسلحين في سورية منذ العام 2012، وفق ما أكدت حينذاك الوكالة القومية المشتركة للأنباء الإيطالية العالمية “أنسا”.

وتجسّدت أهمية الخط القطري التركي في كونه الأقرب إلى أوروبا، فضلاً عن كونه مفضّلاً للاتحاد الأوروبي، إذ يسمح لأوروبا باستيراد الغاز من قطر بسعر أرخص بنحو 3 مرات من ذاك الذي تصدّرُه روسيا. ولو قدر لهذا الخط النجاح، لكان كفيلاً بتحرّر القارة العجوز من الاعتماد على الغاز الروسي، ولأثّر سلباً على اقتصاد موسكو.

وما يؤكد تصدر هذا الملف للصراع، هو إشارة وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي ألب أرسلان بيرقتار له، بعد أيام قليلة من سقوط النظام السوري، قائلا: “ولمَ لا يتحقق شيء كهذا (خط الغاز القطري إلى أوروبا عبر الأراضي التركية والسورية) في سورية موحدة ومستقرة؟ قد تكون فرصة استثنائية، لكن إن تحقق الأمر فلا بد من تأمين هذا الخط، نأمل هذا، وإن تحقق بالفعل فسيتم إنتاج العديد من المشاريع”.

2- القضاء على الطموحات الكردية:

يشكل ملف الأكراد هاجسًا كبيرًا للأمن القومي التركي، فالهدف النهائي لتركيا هو الإطاحة بالإدارة الذاتية الكردية في شمال سورية وشرقها، حيث يسيطر عليها “حزب الاتحاد الديمقراطي” (PYD)، وهو فرع من “حزب العمال الكردستاني” المحظور (PKK) لدى أنقرة.

تاريخيًا، وتحت عنوان معلن هو “مكافحة الإرهاب”، تكررت التدخّلات والعمليّات العسكريّة التركيّة في شمال سورية، من “درع الفرات” (2016م)، إلى “غصن الزيتون” (2018م)، إلى “نبع السلام” (2019م)، إلا أن مضمونها وغايتها كان فرض “درع تركي” بدلاً من مشروع “الكوريدور الكرديّ” الذي برز في أعقاب سيطرة الأكراد على مساحات ممتدة على طول المنطقة من شمال سورية، خلال الفترة ما بين عام 2011م، و2016م، ما رأت فيه تركيا تهديداً مستقبليًّا وجوديّاً لها.. وسرعان ما كانت تتبع هذه التوغّلات العسكريّة التركيّة عمليات تغيير ديموغرافي، من خلال إحلال جماعات تركمانيّة وعربية موالية لتركيا بدلاً من الأكراد والسريان.

صحيح أن أردوغان لا يخفي نواياه وعزمه سحق القوات الكردية، بوصفها “إرهابية” وفقًا للتصنيف التركي. إلا أن سعي أنقرة إلى إضعاف تلك القوات  المدعومة من الولايات المتحدة في شمال شرق سورية، يضعها في خلاف مع واشنطن المتمسكة بالتحالف معهم، والتي أرسلت مؤخرًا على عجل وزير خارجيتها إلى تركيا وكانت القضية الكردية في صدارة ملفات زيارته، لا سيما بعد إعلان الجماعات المسلحة المدعومة من تركيا سيطرتها على مدينة دير الزور في الشرق وعلى منبج في الشمال بعد معارك عنيفة مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وكذلك سيطرتها على مدينة “تل رفعت” وطرد القوات الكردية منها. تلك القوات التي وصف بلينكن دورها، بأنه حيوي لمنع عودة تنظيم «داعش» إلى الظهور في سورية بعد الإطاحة بالأسد.

لكن الموقف الاميركي عبر عنه  بدقة المحلل المتخصص في المسألة الكردية “موتلو تشفير أوغلو”، حينما قال، إن بلينكن سيحاول إقناع تركيا بحصر تحركاتها، وأن زيارة رئيس القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) مؤخراً لـ”قوات سورية الديمقراطية” هي رسالة مهمة إلى تركيا.

من الواضح أن أردوغان يسعى لتثبيت واقع جديد على الأرض للتفاوض مع ترامب بعد استلامه الرئاسة، وذلك ما أوضحه خبير المسألة الكردية فايق بولوت، إذ تود أنقرة استبدال “قسد” بحزب كردي قريبها وهو “المجلس الوطني الكردي”، القريب من “الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي” الذي يقيم علاقات جيدة مع تركيا، وهكذا يمكن لإردوغان طرح نفسه في موقع حامي الأكراد، بما يتفق أيضاً مع تطلعاته العثمانية الجديدة.

ولا شك في أن هذا الملف شائك وقد يعيد سورية لحالة من الاقتتال بين الفصائل الموالية لتركيا وتلك الموالية لأمريكا، وقد يصبح التقاتل أيضاً بين الفصائل الكردية وفقاً لولاءاتها، خاصة أن أميركا لن تتخلى بسهولة عن “قسد” لأنها توفر مبرراً لموطئ القدم الأمريكي في سورية باسم “التحالف الدولي” لمحاربة داعش، والتي تستخدم كفزاعة  لاستدعاء الحضور الأمريكي، وكل ذلك ينذر بالفوضى والخطورة.

3- عودة اللاجئين وحل المشكلة الداخلية مع المعارضة:

شكل ملف اللاجئين السوريين أزمة كبرى وعبئًا على الداخل التركي، وكان نقطة قوة لصالح خصوم أردوغان، في ظل الأزمة الاقتصادية في تركيا، وهو ما عجل بخطواتها تجاه دعم الجماعات الساعية لإسقاط النظام السوري.

وفي العام 2023، وفي إطار خطته التي أعلنها أردوغان والرامية لترحيل ملايين اللاجئين السوريين من تركيا وتوطينهم بالشمال السوري المحتل، طرح أردوغان ما أسماه “خارطة طريق”، تتضمن تشكيل “آلية ثلاثية” للإشراف على عمليات الترحيل، تتكون من وزارة الداخلية و”حزب العدالة والتنمية” الحاكم وكتلته النيابية في البرلمان، وكشفت صحيفة “صباح” المقرّبة من الحكومة التركية، أن أردوغان أمر بتشكيل “الآلية الثلاثية” لتحفيز عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، والتي تتضمن ضم مدينة حلب المعروفة بأنها العاصمة الاقتصادية لسورية إلى “خارطة الطريق” التي يطرحها الرئيس التركي، من أجل إعادة ملايين اللاجئين السوريين إليها.

4- الميثاق الملي واستعادة أمجاد الامبراطورية العثمانية:

كشفت الكثير من التصريحات التركية العلنية، عن توجهات أنقرة لإحياء الماضي الإمبراطوري العثماني، حيث يطمح أردوغان للعودة إلى “الميثاق الملي” لعام 1920، والذي رسم حدود تركيا بعد الحرب العالمية الأولى ووضع ضمنها شمال سورية والعراق وبعض جزر بحر إيجه والبحر المتوسط، هذا المخطط القديم الجديد كشف عنه المسؤول عن الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي، والذي كان موفد ما يسمى بـ”التحالف الدولي” ضد “داعش” “بريت ماكغورك”، وذلك عندما صرّح بأنه سمع أردوغان يقول: “إن 400 ميل مربع بين حلب والموصل هي منطقة أمنية تركية”.

كما تردد ذكره على لسان أردوغان في تشرين الأول (أكتوبر) 2016م، بعد رفض الحكومة العراقيّة مشاركة تركيا في عملية تحرير مدينة الموصل شمال العراق من تنظيم “داعش”، إذ قال آنذاك، ردًا على العراق: “عليهم قراءة الميثاق الملّي ليفهموا معنى الموصل بالنسبة لنا”، وأضاف: “الموصل كانت لنا”.

وفي الحادي عشر من كانون الثاني (يناير) 2018م، وبالتزامن مع التحضير لانطلاق عملية “غصن الزيتون” العسكريّة التركيّة ضد الأكراد في شمال سوريا، صرّح أردوغان، خلال اجتماع في المجمع الرئاسيّ بأنقرة، بأنّ “شمال سورية كانت ضمن حدود الميثاق الملّي، ولن نسمح بقيامة كيان إرهابيّ هناك”. وفي تصريح آخر له، في الرابع والعشرين من الشهر ذاته قال:”لا تنسَوا حساسيتنا تجاه حدود الميثاق الملّي. حدود الميثاق هي حيث يوجد الآن الإرهاب في شمال سورية وشمال العراق”.

باختصار فإن هذا “الميثاق الملي” جاء في بنوده أن “المناطق التي تسكنها غالبية تركية مسلمة تعتبر وطناً للأمة التركيّة”. وبذلك هو يعترف بخسارة تركيا للولايات العربيّة في الهلال الخصيب، ولكنه يستثني المناطق الشمالية منها، ذات الغالبيّة غير العربيّة، من الأكراد والسريان والتركمان، والذين يعتبرون من الأتراك، وفق التأويل القومي التركيّ!. بمعنى آخر فإنه يستثني مناطق شمال سورية وشمال العراق، إضافة إلى طموحاته بضم مناطق تراقيا الغربيّة، وجزر بحر إيجه، وجزيرة قبرص، إلى الدولة التركية الجديدة، باعتبار أن أغلبية سكانها من الناطقين بالتركيّة.

5- مصالح “الناتو” بحكم العضوية التركية في الحلف:

لا شك أن تركيا العضو بـ”الناتو” تمثل مصالح هذا الحلف المعادي للروس ومصالحهم في المتوسط، وتتماهى مع المصالح الأمريكية الراعية للكيان “الإسرائيلي” والتي تريد قطع تواصل محور المقاومة، وهنا يأتي التقاطع بين المصالح العامة لـ”الناتو” والمصالح التركية الخاصة.

والخلاصة، أن تركيا الطامحة للمشروع العثماني والتي تشكل الجناح الجنوبي الشرقي لحلف “الناتو” لها أطماعها في سورية والعراق، وهو ما يتعارض مع حفظ وحدة سورية بشكل عملي، من هنا فإن سورية باتت بعد سقوط النظام السابق في خطر حقيقي لمسخ هويتها المقاومة، وعرضة للتقسيم على أساس النفوذ والهيمنة وفق “سايكس بيكو” جديد، حتى لو حافظت على شكل وحدة أراضيها أو شكل “فيدرالي” دون مضمون وجوهر حقيقي للسيادة، وهو وضع خطير ينذر بتجدد الصراعات عندما تتصادم مصالح الدول الراعية للجماعات المسلحة والأكراد و”الدواعش” على الأراضي السورية.

المصدر: العهد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى