الاستنزاف المكلف: هل وقعت “العدو ” في الفخ؟
على الرغم من قيام الآلة العسكرية الإسرائيلية بتدمير غزة وقتل ما يزيد على 40 ألف فلسطيني، فيمكن القول إن “إسرائيل” ستصل يوماً الى إعلان أنها “فازت بمعركة”، لكنها عملياً “خسرت الحرب”.”إسرائيل” ووضع “خاسر- خاسر”.
تتوالى الاستقالات ضمن “الجيش” والشرطة الإسرائيليين. وفي وقت أعلن رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هاليفي نيّته الاستقالة، في كانون الأول/ديسمبر المقبل، تمّ إعلان استقالة يوسي شاريئيل، قائد وحدة الاستخبارات الإسرائيلية (8200) من منصبه، وهو ثاني مسؤول كبير في الاستخبارات الإسرائيلية يستقيل، بسبب الفشل في التصدي لهجوم الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بعد أن كان رئيس شبكة “أمان” أهارون هاليفا استقال للسبب نفسه في نيسان/أبريل الماضي.ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، حدثت استقالات أخرى داخل “الجيش”، أبرزها استقالة قائد “فرقة غزة” العميد آفي روزنفيلد، وقائد القوات البرية اللواء تامير ياداي، في وقت قال المراقبون إن تلك الاستقالات تعكس المشكلات التي يعانيها جيش الاحتلال في حربه على غزة، وتجسّد هروباً من الفشل في تحقيق أهداف الحرب.
على الرغم من مرور أحد عشر شهراً على بدء الحرب على غزة، ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن “حكومة نتنياهو أبلغت المحكمة العليا أن إسرائيل لا تحتفظ بسيطرة فعّالة على قطاع غزة، وأن حماس لا تزال تستطيع ممارسة صلاحيات الحكم في غزة، وأن الجيش لا يزال يتعرض لمقاومة في القطاع تحت الأرض وفوقها”.
إن عرض ما سبق يشير، بصورة عامة، إلى أن “إسرائيل” دخلت في وضع “الاستنزاف المكلف”، والذي تجد نفسها فيه في وضع “خاسر- خاسر”، وهي حالة تمّ توصيفها في العلاقات الدولية، وخصوصاً في نظرية اللعبة، بحيث يجد فيها اللاعب نفسه في موقف عليه أن يتصرف، لكنه واقع في فخ محكَم، بحيث لا يستفيد فيه من أي نتيجة مهما كان الخيار الذي سيتخذه.
“إسرائيل” ووضع “خاسر- خاسر”
تشبه هذه النظرية حالة Zugzwang، وهي حالة موجودة في لعبة الشطرنج وغيرها من الألعاب القائمة على الأدوار، بحيث يصبح وضع اللاعب حرجاً وفي وضع غير موات (فخ) بسبب التزامه إجراء حركة. ويقال إن اللاعب “في وضع Zugzwang” عندما تؤدي أي حركة إلى تفاقم موقفه.
مواضيع متعلقة
دلالات المجازر الإسرائيلية المتصاعدة… ما علاقة أميركا؟
اليوم 08:47
لماذا يتآمرون على فلسطين؟
14 أيلول 09:31
وبالنظر الى حرب غزة، فإن وضع نتنياهو حالياً يشبه تلك الحالة، فوقف الحرب يعني خسارة كبيرة سياسية له شخصياً ولليمين الإسرائيلي، وخسارة لـ”إسرائيل” على الصعيد الاستراتيجي.
أما استمرارها فمكلف أيضاً، وخصوصاً بعد أن اعترفت حكومة نتنياهو بأن حماس ما زالت تسيطر على غزة على الرغم من التكاليف البشرية والعسكرية وتأكّل الردع، وانهيار السمعة الدولية، والاتهامات بالإبادة في أعلى محكمتين دوليتين في العالم.
وهكذا، تكون “إسرائيل” فعلياً دخلت مرحلة حرب الاستنزاف المكلفة، أي الحرب التي تستمر وقتاً طويلاً من دون قدرة أي طرف على إنهائها. وبما أن “إسرائيل” هي التي تمتلك مفاتيح القرار بوقف الحرب، فإن حرب الاستنزاف هي الفرصة الأكيدة للمقاومة الفلسطينية في إرهاق العدو، وتقليص قدرته على شن الحرب من خلال تدمير موارده العسكرية بأي وسيلة، بما في ذلك حرب العصابات والدهس والعمليات من مسافة صفر وإتقان الحرب النفسية للتأثير في “الجبهة الداخلية” الإسرائيلية وغيرها من الوسائل التي ترهق الإسرائيليين وتستنزفهم بطريقة بطيئة إن لم يكن متوافراً عامل الحسم السريع بالنسبة إلى الطرف الأضعف في هذه المعادلة.
وهكذا، بالنظر الى الاستنزاف (ولو البطيء) الذي تعانيه “إسرائيل” في حرب غزة، نفهم لماذا يفضّل الإسرائيلي دائماً الحرب الخاطفة منذ عام 1967؛ أي الحرب التي تقوم على استخدام عنصر المفاجأة والهجوم بقوة وبسرعة لتحقيق انتصار سريع على العدو، بأقل تكلفة ممكنة، وفي وقت قصير.
النصر باهظ الثمن
بالعودة الى نصيحة كارل فون كلاوزفيتز بعدم شنّ حرب لا يمكن الفوز فيها، نجد أن من الأخطاء الاستراتيجية، التي وقع فيها القادة السياسيون الإسرائيليون، هو “تحديد أهداف الحرب (تعريف النصر)”، بحيث إن أي نتيجة أقل من تلك الأهداف تُعَدّ خسارة استراتيجية.
هكذا، نجد أن الحرب في غزة أدخلت “إسرائيل” في حالة النصر باهظ الثمن، وهي الحالة التي يكون النصر العسكري مكلفاً للغاية إلى درجة أن الجانب الفائز ينتهي به الأمر في الواقع إلى أن يصبح في وضع أسوأ مما كان عليه قبل أن يبدأ.
وإذا نظرنا إلى النصر كجزء من موقف أكبر، فقد يكون الموقف إما لا يمكن الفوز فيه، وإما بمردود أكثر للجانب الآخر من ذلك الذي فاز بـ “النصر”، وإما يكون نصراً بتكلفة عالية تفوق المكاسب، لذا لم يعد مصدراً لادعاء الانتصار.
على سبيل المثال، كانت الإمبراطورية البريطانية واحدة من القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، لكنها كانت ضعيفة للغاية إلى درجة أنها لم تعد قادرة على المحافظة على مكانتها كقوة عظمى في عالم أصبحت تهيمن عليه الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
في الخلاصة، على الرغم من قيام الآلة العسكرية الإسرائيلية بتدمير غزة وقتل ما يزيد على 40 ألف فلسطيني، فيمكن القول إن “إسرائيل” ستصل يوماً الى إعلان أنها “فازت بمعركة”، لكنها عملياً “خسرت الحرب”، وستكون صحّت تحذيرات وزير الدفاع الأميركي، الذي حذّر الإسرائيليين من الربح التكتيكي والخسارة الاستراتيجية.
ليلى نقولا