في أجواء التفاؤل بما ستؤول إليه مفاوضات وقف إطلاق النار في لبنان، يكثر السؤال حول اليوم التالي في شتى مناحي الحياة بما فيها الحياة التعليمية «لنحو 400 ألف تلميذ نازح، و50% من طلاب لبنان الذين تعطّل تعليمهم بسبب الحرب»، بحسب منسّق اتحاد المؤسسات التربوية الخاصة والأمين العام للمدارس الكاثوليكية يوسف نصر. ينشغل المعنيون في صياغة سيناريو العودة إلى التعليم الحضوري بعد الحرب، حيث تتداخل عدة حلقات، بدءاً من المدارس التي تحوّلت إلى مراكز إيواء وغياب خطة إجلاء العائلات النازحة منها، خصوصاً تلك التي فقدت منازلها، مروراً بإعادة بناء وتأهيل المدارس التي تضرّرت بشكل كامل أو جزئي جراء العدوان الإسرائيلي في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، وليس آخرها جهوزية الطاقم التعليمي والإداري والتلامذة على حدّ سواء لمواكبة العملية التعليمية حضورياً، ولا سيما أنّ رحلة نزوح الكثيرين، خاصة أبناء الجنوب، ستطول بعدما دُمّرت قراهم ومنازلهم. هذه الحلقات المعقّدة تعيق إنقاذ العام الدراسي وتجعل العودة المنتظمة بعيدة ما لم توضع خطة تربوية شاملة، وهي غير موجودة حتى الآن، وفي هذا الإطار سألت «الأخبار» وزارة التربية عن خطة العودة لكنها لم تحصل على جواب.
بدورها، تتمسّك المؤسسات التربوية بضرورة العودة إلى التعليم الحضوري، إذ «لا يمكن التعويض عمّا فات الطلاب من خسائر تربوية وسلوكية ونفسية من خلال التعليم عن بعد»، كما يقول المدير التربوي في مؤسسات «أمل» التربوية محمود عيسى، ويجزم بـ«أننا نخطط للعودة الحضورية حصراً»، لكن، كيف سيتحقق ذلك؟ يجيب: «هذا يتطلّب بعض الخطوات في ما يخصّ المدارس المتضررة مثل استخدام مؤسسات أخرى للتعليم وإجراء ترميم، سريعاً، وإن اضطررنا نذهب إلى التعليم المدمج كخيار أخير، على أن يُعاد توزيع الطلاب الذين سيتأخرون في العودة إلى منازلهم، على فروع المؤسسة المنتشرة في أقضية الجنوب وبعلبك الهرمل كما في بيروت، بحسب مكان سكنهم الجديد، وهذا ما اعتمدناه العام الماضي بعد نزوح طلابنا في القرى الجنوبية الحدودية، لكن طبعاً سنكون أمام إلحاق أعداد أكبر من الطلاب بعد الحرب بالمدارس القريبة».
ويكثر سؤال الأهالي حول الوقت الذي ستستغرقه عملية التعافي للعودة إلى التعليم المنتظم بعد وقف إطلاق النار، وهو سؤال يصعب إيجاد جواب دقيق له، لأنه مرهون بطول أمد الحرب والخسائر الناجمة عنها، بالإضافة إلى اختلاف ظروف كل مدرسة. ترجّح المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم (مدارس المهدي)، مثلاً، «مواصلة التعليم عن بعد عبر منصتنا بعد الحرب لفترة تتراوح بين ثلاثة أسابيع وشهر، لأننا لا نعتقد بأن الانتقال إلى التعليم الحضوري سيكون سهلاً لجهة عودة الناس، طلاباً وأساتذة، إلى حياتهم السابقة أو التأقلم بسرعة مع آثار الحرب، عدا الوقت اللازم لفحص سلامة الأبنية حيث تعرّضت اثنتان من مدارسنا لأضرار من القصف المجاور إلى جانب تكسير زجاج وأضرار طفيفة في مدارس أخرى، وسلامة الطرقات المؤدية إلى المدارس، وتنظيم النقل المدرسي والدوامات، والبرامج»، بحسب نائب رئيس المؤسسة فضل الموسوي.
لكن، بصورة أوسع، ومع الدمار الكبير الذي طاول المؤسسات التربوية والوحدات السكنية ولا سيما في الجنوب، والذي لن يسمح بالعودة سريعاً، واختلاف القدرة على الاستجابة للأزمة بين المدارس الصغيرة والمتعثّرة والجمعيات وتكتلات المدارس، يشير نصر إلى «ضرورة ربط الأساتذة والطلاب بمراكز تعليم منتشرة في أماكن تواجد النازحين، كما فعلت وزارة التربية مع طلاب الجنوب السنة الماضية لأن الهمّ عندنا هو ضمان حق جميع الطلاب بالتعليم الحضوري بشكل متساوٍ»، لافتاً في الوقت نفسه إلى أنّ «الأمر لن يكون سهلاً بعد الحرب مع الحاجة إلى عدد أكبر بكثير من مراكز الاستجابة عن السنة الماضية».
الإصرار على العودة إلى التعليم الحضوري في أسرع وقت، مردّه إلى عبثية التعليم «أون لاين»، الذي سيقت إليه المدارس مرغمة، ولم يرضِ الأهالي، ما دفع عدداً مهمّاً منهم إلى الامتناع عن تسجيل أولادهم إلى ما بعد انتهاء الحرب أو تسجيلهم في المدارس التي تعلّم حضورياً في المناطق الآمنة، «وحتى الآن نستقبل طلاباً جدداً وطلاباً قدامى، عدا طلاب خسرناهم بعد تحويل بعض مدارسنا إلى مراكز إيواء»، يقول نصر. المدارس نفسها لا تثق بجدوى التعليم عن بعد رغم نسب المتابعة والمشاركة العالية التي تظهرها الإحصاءات الدورية، «فآخر الإحصاءات حول التفاعل والدخول إلى المنصة ناهز 90% في المرحلة الثانوية و85% في المرحلة المتوسطة و75% في المرحلة الابتدائية، وتراجع ذلك في مرحلة الروضات إلى ما بين 50 و65%، لكننا لا نختبئ وراء أصبعنا ونعلم أنّ المتابعة لا تكفي، والصعوبات غير بسيطة للمواكبة سواء في مراكز الإيواء أو في المنازل المكتظّة بالعائلات، وسط تحديات يواجهها الطلاب والأساتذة لتأمين الأجهزة والإنترنت»، بحسب الموسوي. وهي نتيجة متوقّعة، لذلك «أطلقنا مرحلة الإشغال التربوي وليس التعليم لإشغال الأولاد خلال فترة الحرب عن الهواتف الذكية والألعاب الإلكترونية بهدف تعبئة الوقت بما يقلّل من الضغط النفسي عنهم وعن أهاليهم، ويتيح في الوقت نفسه مراجعة الكفايات والتحضير للعام الدراسي».
الفروقات التعليمية
مجدداً، سيقع على عاتق المسؤولين بعد الحرب ردم الهوة التعليمية بين الطلاب، خصوصاً أنّ الحرب في الجنوب دخلت عاماً دراسياً ثانياً، وعندما اتسعت لم تطاول جميع الطلاب، وهناك فروقات تعليمية بين الطلاب النازحين من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية وغيرهم، وبين طلاب المدارس الرسمية التي تحوّلت إلى مراكز إيواء على امتداد الأراضي اللبنانية والطلاب في المدارس الخاصة الذين يتعلمون حضورياً. وحتى بين الطلاب النازحين، فإن الظروف غير متكافئة بين من يعيش في مركز إيواء أو شقق سكنية مكتظّة بالعائلات أو منزل مستقلّ ومن يمتلك الجهاز والقدرة على الوصول إلى الكهرباء والإنترنت ومن ينتظر انتهاء الحرب ليلتحق بزملائه. و«هذه الفروقات دائماً موجودة، لكن تظهر الفجوات أكثر وقت الأزمات كما حصل عند انتشار جائحة كورونا، وسنكون أمام فروقات تعليمية لافتة بعد الحرب»، كما يتوقّع عيسى. لكن، على حدّ قول نصر، «ليس المهم التفكير كيف نعوّض ونردم الفجوات بل كيف نصل إلى نقطة الصفر التي ننطلق منها إلى التعافي».
التعويض النفسي
إلى جانب التعويض عن الفاقد التعليمي، تولي المؤسسات التربوية أهمية بالغة للآثار النفسية للحرب لدى الطلاب، خصوصاً لمن تعرضوا لصدمات ستعيق عملية تعلمهم، لذلك «تترافق خطة العمل لسد الثغرات الأكاديمية مع خطة إرشاد نفسي لمعالجة آثار الحرب من خلال وضع البرامج اللازمة في خطة العودة»، كما يشير المدير التربوي في مؤسسات «أمل» التربوية محمود عيسى. من جهته، ينتقد نائب رئيس المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم (مدارس المهدي) فضل الموسوي «كيف تقوم بعض المدارس بإجراء الاختبارات المدرسية وتتصرف كما لو أنه عام دراسي طبيعي، علماً أننا كمدارس لدينا رسالة تربوية قبل أن تكون تعليمية، وأهداف أهم بكثير من إنجاز الأهداف الدراسية، وهي الأمان النفسي ومعالجة آثار الحرب وتبديد الهواجس».
الحرب غائبة عن التعليم
صحيح أنّ بعض المدارس الخاصة شاركت في عملية إغاثة النازحين بعدما تحوّلت إلى مراكز إيواء، لكن تربوياً، يحمل رئيس المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم (مدارس المهدي) فضل الموسوي «عتباً كبيراً على المؤسسات التربوية لأنها تصرّفت لتجد حلولاً فردية لتسيير العام الدراسي خلال الحرب، من دون التشبيك مع المؤسسات الأخرى، كما غاب أي نوع من أنواع الشراكة بين المؤسسات، ولم يجرِ إدخال الحرب في عملية التعليم من خلال المبادرات وحملات التضامن مثل استقبال طلاب نازحين أو زيارتهم للتعرف إلى معاناة الأطفال الذين يشتركون معهم في الوطن نفسه ومشاركتهم في أزمتهم». وهذا، برأيه، «سيترك أثراً بالغاً على الطلاب لجهة زعزعة الهوية الوطنية، وثقافة المواطنة، ويضرّ بالتربية والتعاطف مع الآخر».