إعلان كتائب القسام وسرايا القدس مسؤوليتهما عن الانفجار الذي ضرب “تل أبيب” مؤخراً، وتأكيدهما رسمياً عودة العمليات الاستشهادية في الداخل الفلسطيني المحتل إلى الواجهة من جديد رداً على المجازر الإسرائيلية وتهجير المدنيين وسياسة الاغتيالات الإسرائيلية بحق قيادات فصائل المقاومة في قطاع غزة، يعد تحولاً استراتيجياً في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المشتعل منذ السابع من أكتوبر الماضي في الانتقال إلى أسلوب قديم جديد استخدمته المقاومة الفلسطينية قبل أكثر من 20 عاماً عبر سلسلة عمليات تفجيرية استشهادية هزت أركان “دولة” الاحتلال الإسرائيلي، وقضّت مضاجعها، وأحدثت فارقاً كبيراً في معادلة الصراع القائم.
توقيت التبني الصريح والواضح من كتائب القسام وسرايا القدس وتهديداتهما بتنفيذ عمليات استشهادية داخل المدن المحتلة، وتحديداً “تل أبيب”، سيربك كل الحسابات في “إسرائيل”، ومجرد الإعلان الرسمي بالعودة إلى هذا النوع من المقاومة يعكس حالاً من الندية الواضحة للمقاومة كرد على جرائم القتل والإبادة والتطهير العرقي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني منذ أكثر من 10 أشهر متواصلة.
انطلق منفذ عملية “تل أبيب” من محافظات الضفة الغربية المحتلة. هذا المشهد يعيدنا إلى زمن المجد والبطولة والمقاومة الذي يعكس حالاً من الجرأة والشجاعة معاً، واستخدام تكتيك جديد بدأت المقاومة تنتهجه لقلب الطاولة على نتنياهو وحكومته المتطرفة التي لم تدخر أسلوباً من أساليب الإجرام إلا ومارسته بحق الفلسطينيين في قطاع غزة.
هذا التكتيك يعتمد بشكل أساسي على الانتقال من مرحلة الهجوم بدلاً من الدفاع، إذ يشير ذلك التكتيك إلى قوة وقدرة المقاومة في التحكم في المشهد الميداني، ليس في غزة فحسب، بل في جبهات المواجهة الفلسطينية الأخرى رغم ظروفها، بل ونقل المواجهة إلى العمق الإسرائيلي وفي قلب الكيان الإسرائيلي.
تبعث عملية “تل أبيب” الاستشهادية رسالة مهمة وغير مسبوقة لنتنياهو وحكومته اليمينية بأن المقاومة بعافية، وأنها قادرة على أن تدخل مرحلة جديدة من المقاومة سيكون أثرها أشد وأقسى في المستوطنين وفي قلب مدينة “تل أبيب” وضواحيها، وقادرة على أن تذيق المستوطن في “إسرائيل” من الكأس نفسه.
تؤكد المقاومة الفلسطينية أن كل مخططات حكومة نتنياهو الرامية إلى تهجير الفلسطينيين من أرضهم ووطنهم فشلت، وأن الفلسطيني الجديد الذي استخدمت معه كل أساليب القتل والبطش وكي الوعي لينسى قضيته ووطنه فشلت، وأن الجيل القادم لها هو جيل أشد تمسكاً بقضيته ووطنه وأشد إصراراً على التضحية والمقاومة.
ثمة دلالات مهمة في قراءة عملية التفجير في “تل أبيب”، إذ تحمل رسالة قوية بعودة العمل المقاوم بشكل منظم ورعاية فصائلية كاملة، بعدما أخذ طابعاً فردياً منذ سنوات تخللته سلسلة من عمليات الدهس والطعن وإطلاق النار.
تتفوق المقاومة مرة تلو الأخرى على العقلية الأمنية الإسرائيلية، فكما سجلت نصراً كبيراً يوم السابع من أكتوبر على منظومة الأمن الإسرائيلية، ونجحت في كسر صورة وهيبة “الجيش” الذي قال إنه لا يقهر، تعيد المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة الكرة بشكل وأسلوب جديد، وتنجح في اختراق كل أساليب الأمن في “إسرائيل” وتجاوز كل القيود الأمنية والقدرة على الوصول بعبوة ناسفة إلى قلب “تل أبيب”.
يفقد المستوطنون في أكثر المدن المحتلة أماناً وازدهاراً الأمن الشخصي مجدداً، كما فقدوا الثقة بحكومة نتنياهو التي وعدتهم بتحقيق الأمن والاستقرار وفشلت في تحقيق أي من وعودها، وبات المشهد في “تل أبيب” منذ تبني العملية أكثر رعباً وقلقاً من تكرار العملية ذاتها في كل لحظة ومكان، ناهيك بأثر ذلك وتداعياته على الصعيد الأمني والاقتصادي والاجتماعي بشكل سلبي.
تكتمل الصورة على الجانب الآخر أكثر بعد عملية “تل أبيب” الاستشهادية والتحام جبهات المقاومة داخلياً بوحدتها المتينة، فقد راهنت حكومة نتنياهو كثيراً على تحقيق هدف الاستفراد بالضفة الغربية وجعلها جبهة مبتورة الأيدي غير قادرة على أداء دورها الاستراتيجي في حال الصراع القائم، إلا أنها فاجأت كل الحسابات الإسرائيلية والعقل الإسرائيلي، وأكدت أنها جبهة مهمة وقادرة على توجيه رسائل عسكرية وسياسية في آن واحد.
عملية “تل أبيب” تعد منذ اللحظة الأولى التي وقعت فيها ورقة ضغط قوية بيد حركة حماس وسرايا القدس إلى جانب ورقة الأسرى التي تمتلكها، وستؤثر بكل تأكيد وبشكل مباشر في واقع ومستقبل الحرب المستمرة في قطاع غزة، وستزيد من فاتورة الضغط الذي يمارسه المستوطنون في “إسرائيل” على حكومة نتنياهو للمضي قدماً في الانخراط بصفقة تبادل تتوقف فيها الحرب على غزة.
إذ تقول المقاومة بكل قوة وبلا تراجع إن حبل الخلاص من تداعيات استئناف هذا النوع من المقاومة هو الموافقة على وقف إطلاق النار والانسحاب من غزة وإبرام صفقة تبادل للأسرى، إذ إنها تفرض سؤالاً من مجتمع المستوطنين في “إسرائيل”، فنتنياهو الذي فشل على مدار عشرة أشهر في تحقيق نصره المزعوم أو كما يسميه بالنصر المطلق واستئصال حركة حماس وقوى المقاومة في قطاع غزة، هل يكون بمقدوره تحقيق الأمن والاستقرار لأكثر مناطق الكيان الإسرائيلي عمقاً؟
سيناريو بدأ يرسم معالمه بمنحنى تصاعدي أكثر يحاول نتنياهو تجاهله وخداع شعبه، لكن النتيجة الحتمية لمواجهة بطش “إسرائيل” هي انتفاضة عارمة تحرق الأخضر واليابس تكون العمليات الاستشهادية عنواناً لها ستشتعل كرد فعل طبيعي على كل أشكال الجرائم الإسرائيلية التي فاقت كل الحدود؛ انتفاضة يمتد أثرها إلى كل الأراضي الفلسطينية المحتلة.