من يقلب صفحات التاريخ ويتصفح أرشيف كبريات الصحف اللبنانية العريقة وما خطته، يلحظ تردد ذكر نهر الليطاني كعنوان عريض و”مانشيت” دائمة في كل الحروب التي شنتها “إسرائيل” على لبنان، ومن يتابع المشهد الميداني اليوم وتموضعات جيش العدو ومحاور تقدمه يشعر أننا أمام استنساخ سيناريو مشابه لكل سيناريوهات الاعتداءات والاجتياحات السابقة التي تعرض لها لبنان منذ 76 عامًا، بل لعله السيناريو الشامل والجامع لكل تجارب حروب الماضي معًا في حرب واحدة بلحاظ الفارق في التطور التكنولوجي الذي اكتسبه جيش العدو، والذي مكنه من تحقيق بعض النجاحات التي لم يكن سابقا قادرًا على تحقيقها.
عودة سريعة بالذاكرة إلى منتصف أيار عام ١٩٤٨، منذ اليوم الأول لتأسيس الكيان الغاصب على أرض فلسطين، سعى للتوسع باتجاه جنوب لبنان والوصول تحديدًا إلى نهر الليطاني، فوقعت يومها معركة المالكية الشهيرة بقيادة الشهيد الملازم محمد زغيب، واستغرقت خمس جولات وتحديدًا حتى أواخر شهر تشرين الأول، يوم احتل جيش العدو ١٥ قرية حدودية، وارتكب مجزرة حولا الشهيرة في محاولة لفرض واقع جيوغرافي جديد، أعقب ذلك صدور قرارين للأمم المتحدة تحت الرقمَين 61 و62 الصادرَين في 4 و16 تشرين الثاني 1948، واللذين أسسا لاتفاقية الهدنة العامة بين لبنان و”إسرائيل” في 23 آذار 1949.
ورغم تقييد الهدنة لعديد وعتاد الجيش اللبناني على الحدود وحصرها بشكل كبير، لم يحترم جيش العدو بنودها وخرقها مرارًا وتكرارًا منتهكًا السيادة اللبنانية دون مبرر، لا سيما حينما أغار طيرانه عام ١٩٦٥ على منابع الحاصباني والوزاني واجتازت قواته بلدتي ميس وحولا من جديد، حتى إذا ما أتته الفرصة بعد 18 عامًا وتحديدًا في حرب أكتوبر 1967 سارع العدو للتخلص من الهدنة.
فمع أن لبنان يومها لم يكن طرفًا في تلك الحرب ولم يشترك فيها فإن جيش العدو لم يحيده، واجتاح مزارع شبعا وطرد أهلها وفجر منازلهم. ثم نفذ في العام التالي عملية الإنزال الشهيرة لقوات “الكوماندوس” في مطار بيروت ونسف ١٣ طائرة مدنية، وبعدها بعامين دخل قرى عدة في مناطق العرقوب ومرجعيون وبنت جبيل. ثم تكررت الاعتداءات على نفس المناطق وفي الخيام وكفركلا عام 1971، وفي عام ١٩٧٣ هاجمت قوات العدو مخيمي اللاجئين في البداوي ونهر البارد في طرابلس شمال لبنان.
كانت اعتداءات جيش العدو على القرى الحدودية شبه يومية، في آب 1976 شنت قوات العدو هجومًا في القطاع الشرقي واحتلت مرتفع “تلة العويضة” المطل على الطيبة. و”جبل المحامص” جنوب بلدة الخيام.
وارتكبت في نفس العام مجزرة سوق بنت جبيل الشهير في المدينة فاستشهد ٢٣ مدنيًا وجرح العشرات. وفي نيسان ١٩٧٧ احتلت ٣٠ قرية حدودية، وتقدمت تحت غطاء مدفعي نحو “تل شعلبون” في بنت جبيل وسعت للسيطرة على “تل مسعود”.
بعدها بشهر سعت قوات العدو للتقدم تحت غطاء مدفعي وناري باتجاه بلدة الطيبة من ثلاثة محاور وحاصرتها وقطعت طريق تربطها ببلدة رب ثلاثين. وتوالت الاعتداءات “الإسرائيلية” حتى حصل الاجتياح الأول والكبير للأراضي اللبنانية فيما أطلق عليه جيش العدو تسمية “عملية الليطاني” عام 1978، ثم الاجتياح الثاني عام 1982 والذي وصل فيه إلى بيروت محاولاً تغيير الواقع السياسي في لبنان.
لماذا هذا السرد التاريخي؟
لا شك أن التاريخ يختزن الكثير من التجارب التي ينبغي التعلم والاستفادة منها، فمقارنة بسيطة بين الحروب والاجتياحات التاريخية للبنان والمواجهات البطولية التي تجري في جنوب لبنان اليوم، تبرز لنا الكثير من الدلالات المهمة وتوضح الكثير من المتغيرات المستندة إلى ما فعلته وتفعله المقاومة في هذه الأيام.
1. طوال التاريخ تثبت الوقائع والأحداث أن العدو كان المبادر دومًا للعدوان على لبنان، ولم يحتج إلى ذريعة كما حصل عام 1967. كما تثبت اعتداءات العدو المتكررة أنه لم يذعن لا لاتفاقات ولا لقرارات دولية وهذا ما حدث بخرقه هدنة 1949 ثم بجميع القرارات الدولية اللاحقة والتي يتجاوز عددها المئة قرار لم ينفذ منها حرفًا.
2. لم يكن كيان العدو طوال تلك المدة الزمنية، أي منذ تأسيسه، يتعرض لأي مقاومة تذكر، ورغم ذلك كانت قواته تصول وتجول بين القرى وتتقدم إليها بجنودها ومجنزراتها وتنكل وتروع بأهلها، دون أن يبرز من يدافع عنهم. أما اليوم فثمة مقاومة راسخة نبتت من تلك الأرض وفي ظل القهر وتجذرت لتؤدي تكليفها الجهادي وتدافع عن شعبها وأهلها وتوجه للعدو بدل الصفعة صفعات.
3. لم يكن حزب الله موجودًا بعد، وكانت الاعتداءات “الإسرائيلية” تتكرر يوميًا على لبنان، ومنها اجتياحان وصل فيهما العدو خلال ساعات إلى بيروت، أما الفارق اليوم أن بضع مئات من المقاومين الأشداء أوقفوا عشرات الآلاف من الفرق والكتائب العسكرية لجيش العدو عند تخوم القرى الأمامية ومنعوه من تجاوز بضعة أمتار فيها. وهذا تحول لا يستطيع ولا يمكن لأحد أن يتجاوزه سواء بالادعاء أن المقاومة هي من استجلبت العدوان أو بتحميل سلاحها مسؤولية جر البلد للدمار والخراب.
4. لم يحتج جيش العدو في كل اعتداءاته واجتياحاته إلى الكثير من الوقت. خلال ساعات فقط كان يصل إلى نهر الليطاني، وكذلك إلى بيروت، أما اليوم ونحن على عتبة تجاوز الخمسين يومًا من العملية البرية، لم يستطع جيش العدو أن يتقدم بضع مئات من الأمتار وبقي غارقًا في وحول المواجهة على خط القرى الأمامية، متكبدًا خسائر كبيرة وباهظة، وبعيدًا كليًا عن تحقيق هدفه بالوصول إلى نهر الليطاني.
5. في القطاعات الثلاثة الغربي والشرقي والأوسط، تعود اليوم إلى الواجهة من جديد نفس العوارض الطبيعية التي حاول العدو في كل الحروب السابقة السيطرة عليها للوصول إلى الليطاني، نسمع اليوم عن محاولات العدو للتقدم نحو “تلة العويضة” و”جبل المحامص” في الخيام، ونسمع كما سمعنا في حرب تموز 2006 بـ”تل شلعبون” و”تل مسعود” في بنت جبيل.
من مفارقات الحرب القائمة على وقع إنجازات المقاومة، أننا إذا عدنا إلى مضامين هدنة عام 1949، سنجد أن العدو ومن خلفه المجتمع الدولي سعى حينها إلى منع تمركز الجيش اللبناني على الحدود وحدد العدد المسموح بتمركزه (1500 ضابط وجندي) ونوع السلاح المسموح به، لكننا اليوم وفي ظل مفاوضات وقف إطلاق النار الجارية ومسودة الاتفاق التي حملها المبعوث الاميركي آموس هوكشتاين إلى بيروت نجد أن العدو نفسه ومعه المجتمع الدولي تحوّلا إلى المطالب الأبرز بتكثيف حضور الجيش في المنطقة الحدودية، لكن ليس بغاية تحقيق السيادة اللبنانية، وأن يكون حاميًا للبنانيين ليرد عنهم الاعتداءات بحال حصولها، بل لكي يكون –وفق المنظور المعادي- مكلفًا بمهمة نزع سلاح المقاومة، ما يعني أن العدو يريد أن يحول الجيش اللبناني إلى حارس لمستوطناته، وهذا بالطبع ما لا تقبل به الحكومة اللبنانية ولا الجيش ولا اللبنانيون كافة.
مهما يكن فإن من أهم نتائج الحرب الدائرة اليوم أنها أثبتت مجددًا جدوى وفعالية وجود مقاومة باسلة على الحدود اللبنانية، مقاومة قالت لجيش العدو لن تعبر إلا على أجساد أبطالنا، مانعة إياه من تحويل قرانا وبلداتنا وحتى عاصمتنا بيروت إلى متاريس كما فعل عام 1982، محيلةً مستوطنات العدو التي كانت آمنة على مدى عشرات السنوات إلى جبهة داخل الحرب، وإلى حزام أمني باتوا يسمونه “رعب الشمال”.
علي عوباني- العهد
الوسوم
آموس هوكستين الحدود اللبنانية العدو الاسرائيلي المقاومة الاسلامية الولايات المتحدة جنوب لبنان حزب الله
تم نسخ الرابط