انقضت نصف المدّة التي حددتها محكمة العدل الدولية في قرارها الذي أصدرته بشأن غزّة بناء على دعوى جنوب افريقيا حيث نصّ قرار المحكمة الصادر بتاريخ 26/1/2024 على “ضرورة اتّخاذ “إسرائيل” كلّ التدابير التي في وسعها من أجل منع وضمان عدم حدوث إبادة جماعية في قطاع غزّة، مع اتّخاذ إجراءات لتحسين الوضع الإنسانيّ، وتقديم تقرير في غضون شهر”.
وعلى الرغم من أن القرار لم يطلب وقف إطلاق النار في حينها لكنّه أقرّ بوجود قرائن قدمتها جنوب افريقيا يمكن البناء عليها للتحقيق في نية “اسرائيل” ارتكاب جرائم إبادة جماعية. ولا يخفى على أحد أن القرار تمت صياغته بما يتوافق مع رغبة واشنطن التي كان لها دور في تحديد مدة الشهر الممنوحة لـ”تل ابيب”.
واشنطن كانت تعقد آمالًا على استغلال تلك الفترة لتسويق حل سياسي دائم يحقق لها مصالحها ويحفظ لها بعضًا من هيبتها المتآكلة في المنطقة، ويشكّل مخرجًا لحليفتها “إسرائيل” من الورطة الوجودية التي وقعت بها منذ انطلاق طوفان الأقصى في 7 أكتوبر.
خلال تلك المدة المنصرمة وبعيد قرار المحكمة لجأت واشنطن إلى التصعيد بالتوازي مع اجتماعات باريس التي ترأسها مدير وكالة المخابرات الأميركية وليم بيرنز والتي خرجت بوثيقة للحل السياسي بتنسيق مع مصر وقطر والكيان الصهيوني.
وتزامن الإعلان عن الوثيقة مع جولة وزيرة الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الخامسة إلى المنطقة منذ انطلاق طوفان الأقصى، والتي ترافقت مع ضخ إعلامي حول أجواء إيجابية لانطلاق مسار الحل السياسي وفقًا لبنود الوثيقة التي شملت وقفًا تدريجيًا لإطلاق النار وتبادلًا للأسرى، وهو ما دلت عليه تصريحات الوزير الأميركي خلال جولته في المنطقة على عدد من العواصم قبيل وصوله لـ”تل ابيب”.
كان واضحًا أن بلينكن ينتظر كلامًا إيجابيًا من السعودية حول التطبيع مع الكيان الصهيوني، وكذلك ردًا إيجابيًا من حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية على بنود وثيقة باريس قبل انتقاله لـ”تل ابيب”.
وكان من الواضح أيضًا أن واشنطن و”تل أبيب” لجأتا بالتزامن مع ذلك التصعيد الذي شمل غزّة، إلى التصعيد أيضًا على جبهات الإسناد في سورية والعراق واليمن، حيث استمرت الاعتداءات الأميركية البريطانية على اليمن، ونفذت “إسرائيل” عدوانًا إجراميًا على مدينة حمص السورية، كما لجأت واشنطن إلى تنفيذ الاعتداءات في شرق سورية والعراق راح ضحيتها العديد من الشهداء، وكان الهدف الأميركي من وراء ذلك التصعيد هو الضغط على غزّة وعلى جبهات الإسناد للقبول بمضمون الوثيقة.
وبالنسبة لواشنطن فإن الأهداف الرئيسية لها يمكن حصرها بمسارين، يتمحور الأول حول استعادة بعض من توازن القوّة الذي فقدته “إسرائيل” منذ 7 أكتوبر بعد أن حولها الطوفان من أداة لتنفيذ المخطّطات والسياسات الأميركية في المنطقة إلى عبء استراتيجي احتاجت واشنطن للتدخل بنفسها وبكامل قوتها لحمايته، ويتمحور المسار الثاني حول إعادة ضبط توازن القوّة الإقليمي الذي كسرته جبهات الإسناد في لبنان وسورية والعراق واليمن والذي أفقد واشنطن نفسها هيبتها وبات يتهدّدها وحلفاءها جيوسياسيًّا واقتصاديًا.
منيت جولة بلينكن بفشل ذريع وتلقى المخطّط الأميركي الذي حمله صفعات عدة، كان أولها الرد الذي قدمته حركة حماس الذي علقت عليه واشنطن بالقول إن فيه بنودًا بسقوف عالية، هذا بالإضافة إلى اشتراط حماس بأن تكون روسيا إحدى الدول الضامنة لتنفيذ أي اتفاق لوقف إطلاق النار، وثانيها كان الضغط من جبهة الإسناد العراقية بعد أن أعلنت المقاومة الإسلامية في العراق انتهاء تعليق عملياتها واعتماد الخيار الجهادي كحل وحيد لإخراج القوات الأميركية، بالتوازي مع الضغط السياسي الداخلي لاعتماد قرار برلماني وحكومي لإخراج القوات الأميركية. وثالثها كان جبهة الشمال حيث عاودت المقاومة الإسلامية في الجنوب اللبناني قصفها لقاعدة ميرون ووصلت عملياتها إلى الجولان السوري المحتلّ وسط عجز إسرائيلي عن المواجهة في تلك الجبهة التي أثبت حزب الله بأنه المتحكم بمجرياتها وإيقاعها. ورابعها كان الإصرار اليمني على إغلاق البحر الأحمر بوجه السفن التي تتعامل مع “إسرائيل” وأضيفت إليها السفن الأميركية والبريطانية والتلويح اليمني بطرح معادلة “إخراج الأميركي من البحر الأحمر”. وخامسها كان إعلان الجزائر أنها ستتقدّم بطلب لمجلس الأمن لوقف إطلاق النار في غزّة وهو ما يعني مزيدًا من الحرج لواشنطن على المستوى الداخلي والخارجي.
لا شك بأن واشنطن وحلفاءها تيقنوا وقبل انتهاء جولة بلينكن بأن التسويق لوثيقة باريس قد فشل، وأن الضغط الذي تمت ممارسته أتى بنتائج عكسية، وهو ما دفع بالسعودية لإعادة صياغة موقفها من التطبيع مع “إسرائيل” وتضمينه شروطًا تتعلق بوقف إطلاق النار وإقامة دولة فلسطينية على حدود العام 1967 بعد أن كان المخطّط الأميركي يهدف لإعلان الاعتراف بدولة فلسطينية مجهولة الحدود والجغرافيا.
وفقًا لتلك المعطيات وصل بلينكن إلى “تل أبيب” وكان لا بد لواشنطن من إلصاق فشل تلك المهمّة بغيرها، وسارعت إلى تعليق الفشل على شماعة رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو الذي انتظر وصول بلينكن ليؤكد بأنه لن يرضخ لشروط حماس.
غادر بلينكن المنطقة حاملًا معه فشلًا جديدًا، واستمرارًا واتساعًا للمنعكسات السلبية التي تطال نفوذ بلاده الإقليمي ومكانتها العالمية، وكان لا بد لواشنطن من خطة بديلة جديدة لمعالجة الإنسداد الحاصل وفي ظلّ ضيق الوقت مع بقاء أسبوعين فقط لانتهاء المهلة التي حددتها محكمة العدل الدولية لـ”إسرائيل” لتنفيذ توصياتها بعد أن مضى نصفها حيث جرت الأحداث وكانت النتائج على عكس ما تخطط له واشنطن.
حرّكت “إسرائيل” ورقة “رفح” جنوب قطاع غزّة، وبلا شك فإن طرح بدء العملية العسكرية في تلك المنطقة المطتظة بالنازحين، جرى بالتنسيق مع واشنطن ومن غير المستبعد بأن يكون جرى تنسيقه مع دول إقليمية، بل يمكن القول بأن اقتحام رفح يمثل الخطة البديلة الجديدة لواشنطن وتهدف لممارسة أقصى أشكال الضغط على المقاومة في غزّة وعلى جبهات الإسناد من خلال التهديد بهذا الإقتحام وارتكاب أبشع مجزرة في التاريخ الحديث بحق ما يقارب مليوني فلسطيني في رفح من سكان ومهجرين من شمال القطاع.
يمكن القول إن واشنطن وعبر الكيان الصهيوني المجرم تلجأ للتهديد باقتحام رفح ليتم استثمار ذلك من قبلها ومن قبل و”إسرائيل” لغايات سياسية هدفها الضغط على المقاومة لتقديم تنازلات، وبالتنسيق مع قوى إقليمية لتبييض مواقف دول التطبيع التي تتسابق في إعلان مواقفها الرافضة لهذا الإقتحام، وكذلك لتحقيق مكاسب داخلية لكل من نتنياهو وبايدن، وهو ما أكدته صحيفة “وول ستريت جورنال” التي قالت بأن القاهرة أبلغت حماس بأن “الجيش الإسرائيلي” سيقتحم رفح بعد أسبوعين في حال لم يتم إطلاق “الرهائن”، تزامنًا مع بدء أعمال القصف القصف الجوي العنيف على المدينة.
إذا يمكن القول اليوم بأننا أمام أسبوعين حاسمين سيحددان طبيعة الصراع وتوجهاته ونتائجه النهائية، وهو ما تدركه جميع الأطراف الفاعلة فيه. وضمن هذا الإطار جاءت جولة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان على كلّ من بيروت ودمشق، وتصريحاته بعد لقائه الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله وكذلك تصريحاته في دمشق.
تصريحات عبداللهيان في أغلبها كانت حول تقديم الحل السياسي على ما سواه، وهو اختيار موفق في هذه اللحظة، والأسباب كثيرة تعكس إدراك إيران ومحور المقاومة لحجم المأزق الأميركي الإسرائيلي ولمستوى وطبيعة ونتائج المعركة حتّى الآن، وكأن الوزير الإيراني يريد القول للأميركي “هاكَ سلمًا للنزول عن الشجرة وفق شروطنا وما وصلت إليه نتائج المعركة، فلتفرض على حليفك الإسرائيلي تلك الشروط والاعتراف بالنتائج قبل فوات الأوان”.
بمعنى آخر، فإن محور المقاومة يريد القول للأميركي بأن خطة التهديد باقتحام رفح سيكون مصيرها كما سبقها من مخطّطاتكم وأن الوقت قد حان لاعترافكم بالهزيمة ونحن جاهزون لمساعدتكم على هذا الاعتراف. عبداللهيان قال إن الوقائع تؤكد بأن الحل السياسي ممكن، وهذا دليل على أن محور المقاومة ممسك بمفاصل المعركة في غزّة وفي جبهات الإسناد المحيطة بها في الإقليم، وينتظر من واشنطن أن تتخلى عن المكابرة.