٣٥٠٠ طبيب غادروا لبنان، أهم الاختصاصات الطبية فقدت، بعض الأقسام في المستشفيات أغلقت، وأصبح المرضى يعانون من ارتفاع حاد في تكاليفِ الاستشفاء.
بهذا الشكل، فإننا نفقد لقب “مستشفى الشرق الأوسط”، اللقب الذي حصده لبنان منذ تسعينيات القرن الماضي بين الدول العربية، نتيجة تميزه في القطاع الصحي، حيث قدم أفضل الخدمات الصحية وتميَّز بتوفير كوادر طبية واختصاصيين ذوي كفاءات عالية.
يكشف نقيب الأطباء في لبنان، البروفيسور يوسف بخاش، أن “3500 طبيب من أصل 15 ألف غادروا البلاد في الفترة الأخيرة, مما يشكل فقداناً يُقدر بحوالي 30 في المائة من الجسم الطبي المتخصص”.
وأضاف: “في الوقت الحالي، يتم توفير تغطية نسبية للمرضى، ولكن إذا استمرت الهجرة في الارتفاع، قد نصبح عاجزين عن العثور على البدائل اللازمة للتشخيص والعلاج.”
المرضى ضحية الهجرة
“المعاشات تُدفع بالليرة اللبنانية,بينما تكون الاستشارة الطبية وتكلفة العملية بالدولار,مما يجعل المريض غير قادر على تحمل كلفة العلاج التي تصل إلى 150 دولار للاستشارة الواحدة بينما راتبه لا يتجاوز الـ 200 دولار أميركي.
وإضافة إلى هذا فإنه يعاني اليوم من غياب أهم الاختصاصات الطبية”. هكذا يصف مدير العناية الطبية في وزارة الصحة الدكتور جوزيف الحلو،حال المرضى اللبانيين في ظل هجرة الأطباء.
وتُعبر مريضة تعاني من مرض السرطان عن ألمها قائلة: “أنا اليوم عم عاني من سرطان بالراس،هيدا المرض اللي عانيت منه من 7 سنين بالدم وكان دكتوري عم يقدملي العلاج المناسب حتى شفيت، اليوم رجعلي المرض بس دكتوري هاجر من سنتين وحالتي كتير خطرة يمكن موت بأي لحظة إذا ما عملت العملية، وعم أبرم من منطقة لمنطقة وما عم لاقي الطبيب المناسب، هيدا عدا إنو العملية بتكلف اكثر من 20 الف دولار والتأمين بغطي من الجمل دينته.”
أما أم عادل, وهي مريضة لوكيميا فتقول: “طبيبي هاجر واضطريت فتش على طبيب ثاني يعالجني، وهيدا الوضع مش سهل عليي غير هيك عم ادفع حوالي الـ 200 دولار بالجلسة الوحدة لآخد العلاج المناسب، وهيدي التكلفة بتعادل راتبي واكثر, عم إحرم حالي وولادي من كتير أشياء أساسية كرمال آخد العلاج, بس منقول الحمدلله بعدني قادرة إتعالج، في كتير غيري مش قادرين.”
ويقول مريض آخر مصاب بالتهاب الكبد: “في لبنان، وفي ظل هذه الأوضاع الصعبة، لا يمكن للشخص أن يتلقى العلاج إلا إذا كان لديه فائض من الأموال.
أما الفقير، مثلي ومثل غالبية الشعب اللبناني، يموت معذبًا بمرضه، لعدم قدرته على العلاج لدى الأطباء الاختصاصيين الذين يتقاضون مبالغ طائلة لتقديم العلاج لنا، وأنا حاجّ ختيار ما قادر إشتغل, بنطر الناس تتشفق عليي بحبّة دواء أو فحصية حكيم.”
تأثير الهجرة على الاختصاصات والمستشفيات
بحسب بخاش، فإن “نسبة الأطباء الذين هاجروا رسميًا بلغت 30%، وهذه النسبة تتزايد يوماً بعد يوم”، مؤكدًا أنها “خطيرة على مستوى الخدمات. ولكن الأكثر خطورة هو تأثير هذه الهجرة على الاختصاصات الطبية النادرة التي كانت تتميز بها لبنان”.
ويضيف: “هناك اختصاصات فقدت من لبنان بشكل كامل، مثل اختصاص جراحة القلب للأطفال، حيث يوجد في لبنان جرّاح واحد يعمل في لبنان وفي الخارج في الوقت نفسه.
وإلى جانب هذا الاختصاص، هناك نقص في أطباء الكلى وجراحة الرأس والدماغ، مما يعيق حصول المرضى على الخدمات الصحية الصحيح”.
ويوضح نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة في لبنان، الدكتور سليمان هارون أنّ “قبل الأزمة الاقتصادية كان لبنان يحتل المرتبة الأولى بين المستشفيات في الشرق الأوسط، لكن في الوقت الحاضر أصبح في المرتبة الرابعة.
وهذه الهجرة أثرت بشكل كبير على المستشفيات، لأن الأطباء الذين هاجروا يحملون شهادات عالية ومهمة، وهم ذوو كفاءات عالية، وبالتالي غيابهم خفف من مستوى المستشفيات في لبنان.
كما اضطرت الكثير منها إلى إغلاق أحد أقسامها المهمة، مثل قسم جراحة الرأس وغيرها من الأقسام الأخرى.
وهذا من الطبيعي أن يؤثر على جودة الخدمات، ولكن لحسن الحظ، لا يزال لبنان قادرًا على تقديم الخدمات الصحية بشكل جيد، ليس كما كان في السابق ولكن الوضع مقبول إلى حد ما.”
ويقول المدير الطبي لمستشفى الشيخ راغب حرب الدكتور رفيق سلوم “إن هجرة الاطباء طالت المستشفيات الجنوبية أيضاً, ومنذ بداية الأزمة الاقتصادية حتى الآن في ظل الأوضاع الأمنية الراهنة فقدت المستشفى عددًا لا بأس به من الأطباء الاختصاصيين, وبالتالي أثر ذلك بشكل مباشر على مستوى تقديم الخدمات الطبية التي شهدت انخفاضاً ملحوظاً.” ويوضح أنه “عندما يكون هناك نقص في عدد الأطباء الاختصاصيين تزيد تكلفة الاستشارة الطبية للطبيب الذي لا يزال موجوداً وبالتالي يطال التأثير المرضى أيضاً وليس فقط المستشفيات”.
بدوره يفيد مدير مستشفى بعبدا الحكومي فريد صباغ، بأن “قسم جراحة الدماغ والأعصاب في المشفى قد أقفل بالكامل نظراً لهجرة الأطباء المختصين في هذا القسم”. ويضيف: “في هذه الأوضاع الاقتصادية الراهنة من الصعب أن نستعيد طبيبنا الذي هاجر ومن الأصعب أن نجد طبيبًا آخر ذا كفاءة عالية”.
لماذا يهاجر الطبيب؟
يشير نقيب الأطباء في لبنان، إلى أن “المرحلة الأولى من هجرة الأطباء بدأت مع انهيار الوضع الاقتصادي وفقدان الأطباء لودائعهم في البنوك، مما أدى إلى فقدانهم الثقة في المستقبل الواعد للبلاد. بعد ذلك، جاءت الموجة الثانية نتيجة لانفجار الرابع من آب.
ويوضح أن الوضع الاقتصادي الحالي، الذي يعيشه لبنان والذي يعتبر غير مستقر، يشكل السبب الرئيسي وراء اقتراب موجة هجرة ثالثة يتجهون صوبها”.
يقول الدكتور رامي حرب الأخصّائي في تشخيص و معالجة الأمراض المتعلقة بالهرمون، والذي هاجر منذ سنة إلى إفريقيا إنّ”السبب الرئيسي الذي دفعني إلى ترك البلاد هو الوضع المادي السيئ الذي كان يواجهني، كنت أتقاضى ما بين الـ 50 و 100 دولار لكل ثماني عشرة ساعة دوام في المشفى وهذا أجر زهيد بالنسبة لطبيب”.
ويضيف: “إن ظروف العمل في الخارج أفضل بكثير مما هي عليه في لبنان من عدة نواحي ومنها الناحية المادية وناحية التامين الصحي، ومقارنة بالعمل في لبنان فإنني هنا أعمل بجهد أقل وآخذ حقوقي كاملة”. ويؤكد حرب أن “العودة إلى لبنان قادمة لا محال ولكن عندما يستقر الوضع الامني والاقتصادي أولاً، وثانياً عند تأمين حقوق الطبيب ليتسنى له العيش في حياة كريمة تناسب منصبه”.
“صار لي 5 سنين مهاجر على كندا وما بفكر إرجع على لبنان”, هذا بالنسبة للدكتور ياسر مطر الأخصّائي في جراحة الأسنان والتقويم، الذي يضيف: “قبل الأزمة الاقتصادية كنت أعيش حياة كريمة أنا وعائلتي وكنت أستطيع بسهولة أن أدّخر بعضًا من راتبي في البنك “لوقت الحاجة” ولكن فجأة خسرت كل تلك الأموال ودخلت في مرحلة مادية صعبة وشعرت باليأس وفقدت الثقة في بلدي وقررت أن أهاجر أنا وعائلتي إلى كندا”.
ويقول: “ظروف العمل هنا أفضل بكثير مقارنة بلبنان كما أنني اتمتع بعيش كريم وراحة بال ولا أفكر أبداً بالعودة إلى لبنان، وحتى عائلتي لا تريد العودة”.
ما بين الهجرة والبقاء …
يوضح الاختصاصي في الأعصاب والدماغ الدكتور مصطفى عباس أنّ “لبنان يعاني من شح في الأدوية والمعدات والمستلزمات الطبية, مما يؤثر على قدرة الطبيب على إتمام عمله بالشكل اللازم .
ويشير إلى أن “الدولة لم تعمل منذ بداية الأزمة الاقتصادية على تحسين أوضاع الأطباء من خلال زيادة الرواتب بشكل كاف وإعطائهم كافة حقوقهم.
إضافة إلى ذلك، فإنّ الوضع المعيشي يزداد سوءًا يوماً بعد يوم، فالمعاشات قلت والمصاريف زادت،كل هذه أسباب تدفع بالطبيب للهجرة خارج البلد”. ويختتم عباس كلامه بأن “سبب بقائه في لبنان هو العائلة والوطن اللذان لا غنى عنهما”.
أما بالنسبة للدكتور موسى يوسف اِختصاصي القلب والشرايين “فإن الطبيب اليوم يعمل في عدة مستشفيات، بالإضافة إلى عيادته الخاصة، ويبذل جهداً أكثر من اللازم لضمان حياة كريمة، وهو واحد منهم.
وبالإضافة إلى هذا التعب, لا يحصل الطبيب على كافة حقوقه ولا يعيش الحياة التي تناسب منصبه، لأن الاجر الذي يتقاضاه لا يتناسب مع مستوى تعليمه. وهذه الظروف الصعبة ليست فقط على الطبيب، فالمريض أيضًا هو الضحية الأولى.
وبحسب يوسف فإن “من بين خمسة عشر مريضًا، هناك خمسة لا يستطيعون دفع تكلفة الاستشارة الطبية، وإذا قررت البقاء في لبنان، فإن ذلك يكون لأجلهم”.
في الحلول
يقترح البروفيسور يوسف بخاش عدة حلول، تتمثل في “الدعم المعنوي والقانوني والاجتماعي والاقتصادي للأطباء. والحل مالي أيضاً، ويجب أن يشعر الطبيب أنه يعيش بكرامته”. ويضيف: “المشكلة أن الازمات مترابطة، فمثلًا إذا هاجرت الممرضة، فإن الطبيب لا يمكنه العمل.
كما أن رواتب الناس لم تتغير والطبيب لا يحصل على أجره الكافي. مؤشر الغلاء المعيشي يجب أن يتم إصلاحه من أجل كل الناس، وهناك حاجة أيضًا إلى تحديد المعايير الأدنى من أجل أن ينجز الطبيب عمله، من دواء ومستلزمات ومعدات طبية”.
من جهته يرى الدكتور جوزيف الحلو أن “لبنان يعيش في حلقة دائرة، حيث تتداخل السياسة مع الاقتصاد، والاقتصاد مرتبط بالصحة، ولذلك يقول إن إصلاح القطاع الصحي يجب أن يبدأ من الاقتصاد”.
ويضيف الحلو أن “الحل لا يقتصر على عاتق الوزارة والنقابات فقط، بل يجب على الدولة وضع خطة متكاملة للحد من التدفق المستمر للأطباء، من خلال تحسين أجورهم وتوفير ظروف ملائمة لضمان بقائهم.
ويتعين أيضًا تقديم عروض جاذبة للأطباء المهاجرين لتشجيعهم على العودة، بالإضافة إلى تسريع عمليات دفع الأموال من قبل الجهات الضامنة ورفع تعرفة أتعاب الأطباء”.
وعلى الرغم من كل تلك الأزمات التي يمر بها القطاع الصحي في لبنان، إلا أن الحلو “ينصح كل الأطباء الذين هاجروا بالعودة إلى وطنهم”, وبحسب قوله فإنّ “القطاع الصحي لا ينهار، هو بحاجة فقط إلى دولة ورئيس ومساعدات خارجية ويعود أفضل مما كان عليه في السابق.”