مقالات

قوّة اسرائيل في ضعفها!

لم تتوقف الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة عن التوسع بغرض تعزيز هيمنتها.

كان المسرح العالمي في بداية التسعينات قد خلا من كل منافس، لكن القوة العظمى الوحيدة وقتذاك فكرت بعدم ترك المجال لبروز قوى عالمية، وتعزيز هيمنتها على المناطق الإستراتيجية في العالم بضربات استباقية، فعمدت إلى خنق روسيا بتوسيع الناتو في شرق أوروبا، وخاضت حروباً في أوروبا، ثم في غرب آسيا، بعناوين تراوحت من التدخلات الإنسانية إلى نشر الديموقراطية ومكافحة الإرهاب.

رغم كل الإخفاقات في العقدين الماضيين، تصر الدولة العميقة في الولايات المتحدة على استكمال مسيرة فرض الهيمنة، ومنع تحول دول مثل روسيا والصين إلى قوى إقليمية عظمى.

 منذ عام 2008، اصطدمت أميركا بجدار الكلفة المرتفعة لعقيدتها في السياسة الخارجية القائمة على فرض القوة وممارستها لتعزيز الهيمنة.

ظهرت تحليلات رغبوية في منطقتنا حول أفول الإمبراطورية الأميركية ونهايتها المرتقبة، لكن التراجع الأميركي بتضافر عوامل داخلية وخارجية، لم يكن مؤشراً على تغيير جذري في موازين القوى الدولية، بل كان دافعاً لاستشراس الولايات المتحدة في الدفاع عن موقعها ضمن المعادلة الدولية، مع حسابات تتعلق بتخفيض كلفة التوسع، وعدم الذهاب إلى حروب مباشرة قد تؤدي إلى خطر استخدام السلاح النووي، وهو ما أدى إلى محاولة خلق بدائل عن خوض الحروب بشكل مباشر، تتمثل في تأهيل الوكلاء ودعمهم لوجستياً واستخبارياً. تكرست هذه المعادلة في عهد أوباما، وحاول ترامب المشاغبة على سياسة التوسع دون تحقيق نجاح كبير. 

 بعد الفشل في العراق وأفغانستان، حاولت الولايات المتحدة عدم التورط بحرب في المنطقة، وتخفيض وجودها العسكري فيها، وركزت أكثر على دعم جماعات مسلحة لمحاربة أعدائها، وأرادت في السنوات الأخيرة جمع حلفائها في إطار أمني/اقتصادي تكون إسرائيل رافعته الرئيسية، يضمن هيمنتها على غرب آسيا، وكل هذا بهدف تعزيز حضورها في بحر الصين الجنوبي لاحتواء التحدي الصيني. 

 تريد الولايات المتحدة منع تحول الصين إلى قوة إقليمية عظمى، تسيطر بشكل واضح على محيطها الجغرافي في شرق آسيا، لأن هذا يعني أنها تصبح قادرة على التوسع لاحقاً إلى مناطق أخرى من العالم.

الإستراتيجية الأميركية تنطلق من منع تحول أي دولة إلى قوة مهيمنة في النصف الشرقي من الكرة الأرضية، مع محافظة أميركا على هيمنة مطلقة في الغرب، بما يضمن قدرتها على التحرك بسلاسة في بقية العالم. 

ما حدث في السابع من أكتوبر أن الردع الإسرائيلي اللازم لتطبيق تصورات أميركا في المنطقة تعرض لضربة موجعة، استكملت بأزمة المستوطنات الشمالية، ثم بتوسع الحرب في الإقليم (وإن بوتيرة منخفضة).

أرادت أميركا إعادة تأهيل الردع الإسرائيلي، ووظيفة إسرائيل في تعزيز هيمنتها، ولم يكن من المناسب انتظار حدث أكبر من 7 أكتوبر للتحرك، غير أن العمل الأميركي تخطى الدعم اللوجستي والاستخباري إلى المشاركة الفاعلة في تغيير معادلات الردع لتعويض الهشاشة الإسرائيلية.  

 كان عدم الدخول الأميركي المباشر في مخاضات الردع الإقليمية بعد السابع من أكتوبر يعني تجرؤ أعداء إسرائيل في المنطقة على تهديد وجودها وليس وظيفيّتها فقط، لكن هذا الدخول استدعى تغييراً أميركياً كبيراً تمثل في خوض حرب مصغرة في البحر الأحمر، وتفعيل كل الوسائل للدفاع عن إسرائيل ضد الصواريخ الإيرانية، وإرسال حاملات الطائرات لردع أعداء إسرائيل، بما في ذلك نقل حاملة طائرات من المحيط الهادئ إلى المنطقة وترك آسيا لأسابيع بلا حاملة طائرات.  

  بدا واضحاً طوال عام كامل أن قوة إسرائيل في ضعفها (وهذا يختلف نوعياً عن شعار الانعزالية اللبنانية حول قوة لبنان في ضعفه)، فالضعف الإسرائيلي أنتج تدخلاً أميركياً مباشراً لتغطية جوانب الضعف، وتعزيز نقاط القوة الإسرائيلية وتفعيلها في المعركة إلى الحد الأقصى. 

 يحدث هذا بهدف إعادة تأهيل إسرائيل لتستعيد الردع وتلعب دورها المرغوب أميركياً، لكن هذا ليس مضموناً، وقد تؤدي نتائج الحرب إلى تعزيز الحضور الأميركي العسكري في المنطقة لحماية إسرائيل، إذ تتحول إسرائيل إلى عبء تدريجياً مع غياب الحسم، وتزيد الكلفة الأميركية في ظل الاندفاع في أوكرانيا دون نتيجة حاسمة أيضاً.  

  التراجع الأميركي (وهو يظهر حتى في قدرة المصانع العسكرية الأميركية على تغطية احتياجات إسرائيل وأوكرانيا من السلاح) يدفع نحو تقلص الحسابات العقلانية (مثل تخفيض الحضور العسكري في المنطقة العربية)، والاندفاع المسعور رغبةً في حماية الهيمنة، ما يزيد الكُلَف دون أن يضمن نتائج حاسمة. تتحول إسرائيل في حالة الاندفاع الأميركي هذه، من ضحية إلى جلاد عند قطاع واسع من الرأي العام الغربي، دون أن تتمكن بالنهج الإبادي من استعادة ردعيتها بشكل كامل، ما ينذر بتحولها إلى محمية أميركية مثل غيرها، فتفقد وظيفيتها، في الوقت الذي تعيش فيه تحولاً داخلياً يفجر صراعاً بين مكوناتها حول هوية الكيان.

بدر ابراهيم – الاخبار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى