للمرة الثالثة منذ عملية طوفان الأقصى تحشّد الولايات المتحدة أصولاً عسكرية استراتيجية في المنطقة تحت عنوان الدفاع عن كيان العدو وردع التصعيد الإقليمي.
كانت المرة الأولى مباشرة بعد عملية 7 أكتوبر 2023 لوقف انهيار كيان العدو النفسي والمعنوي ولردع أي هجوم واسع لمحور المقاومة، فيما كانت المرة الثانية بعد إعلان إيران نيتها قصف كيان العدو بشكل مباشر رداً على الغارة الإسرائيلية على مبنى قنصليتها في دمشق، والمرة الثالثة بعد عمليتي الاغتيال الإسرائيليتين في طهران وبيروت.
تحاول واشنطن من خلال هذا التحشيد للأساطيل وحاملات الطائرات وأسراب الطائرات الأحدث، إثبات صدقيتها كحليف موثوق ومقتدر يستطيع لجم محور المقاومة وفرض سقف تفاوضي محدّد عبر خلق تصوّر بأنها مستعدة للمخاطرة بحرب إقليمية واسعة.
إلا أنه بعيداً عن ضغوط صور الاستعراض الأميركي غير المبهر والتكرار المملّ لعبارات الوعيد، فإن خيار التصعيد الأميركي في المنطقة شديد التعقيد على الرغم مما لدى واشنطن من مصالح على المحك.
تجهد الإدارة الأميركية الحالية منذ تسلّم مقاليد الحكم في تكريس مفهوم «الردع المتكامل» في المنطقة، أي الردع من خلال تحالف إقليمي يسمح لواشنطن بنقل أعباء أكبر نحو حلفائها العرب وكيان العدو (الذين يتسلحون بأرقام خيالية)، حتى تستطيع توجيه أصولها نحو شرق آسيا وأوروبا لملاقاة التهديد الصيني وبدرجة أقل الخطر الروسي.
تشدد استراتيجية الدفاع الأميركي عام 2022 على ضرورة تحديد الأولويات الاستراتيجية بشكل صارم (الصين، روسيا) في مقابل إدارة التصعيد والمخاطر المحسوبة والردع في مقابل الأولويات الأخرى.
وقد أثار تحريك الأصول الاستراتيجية من شرق آسيا نحو المنطقة أصوات اعتراض أميركية نظراً إلى الكلفة العالية لهذه العمليات على الجيش الأميركي ولما تتيحه للصين من فرص لتحسين موقفها الجيوسياسي.
في كتابه المنشور حديثاً «نقطة الانصهار»، يكشف قائد القيادة الوسطى الأميركية السابق كينيث ماكينزي (2019 – 2022) أنه في 19 آب 2020 بدأت وزارة الدفاع الأميركية مراجعة خطة إدارة القوات حول العالم بهدف توجيه عدد أكبر منها نحو شرق آسيا، وكان من المفترض أن تغادر حاملة طائرات ومقاتلات وغيرها منطقة مسؤولية القيادة الوسطى في 30 أيلول 2020.
حاول ماكينزي خلال اجتماعات المراجعة ثني مسؤولي الوزارة عن سحب هذه الأصول الاستراتيجية محتجاً بأن إدارة ترامب تشن حملة ضغوط قصوى ضد إيران ذات مخاطر عالية، كما يمكن لسحب هذه الأصول أن يُفسر إشارة ضعف. في المقابل، كان تركيز مسؤولي الوزارة وفق اتهام ماكينزي، على قضايا تفصيلية بدل النظر إلى الصورة الكلية.
في النهاية، تقرر سحب حاملة الطائرات وإبقاء باقي الأصول على الرغم من مخاوف ماكينزي من تصعيد يصاحب الذكرى الأولى لاغتيال الحاج قاسم سليماني.
بمراجعة سريعة للأخبار المتداولة وقتها برّر الأميركيون سحب حاملة الطائرات بكونه خطوة لخفض التوتر مع إيران.
تمتلك الولايات المتحدة قدرات عسكرية منقطعة النظير، إلا أن المقاربات الحديثة للقوة تبتعد عن قياسها بالموارد بل تربطها بالسياق.
فواشنطن منخرطة في صراعات وأزمات وتوترات على مدى الكوكب، وهي تتصف بالتصاعد والخطورة نظراً إلى حساسية اللحظة الدولية.
في الولايات المتحدة، هناك اتجاه وازن عبّر عنه تقرير حديث للجنة استراتيجية الدفاع الوطني في مؤسسة «راند» (تموز 2024) يجد أن ميزان القوى العسكري سيستمر بالانحياز نحو الصين في حال لم تبادر أميركا إلى تعديلات هيكلية في مجال الدفاع.
ويحذّر التقرير من تداعيات كارثية لحرب شاملة مع دولة منافسة أو قريبة من ذلك وأن «الحرب مع قوة عظمى ستؤثر على حياة كل أميركي بطرق لا يمكننا سوى تخيّلها» وأن الأميركيين لم يدركوا بعد التكاليف المترتبة على احتمال فقدان الولايات المتحدة مكانتها كقوة عظمى عالمية.
ففي ظل ضعف القاعدة الصناعية العسكرية الأميركية والمشاكل التشغيلية المتراكمة والقيود على الموازنة، لن تحقق واشنطن الانتصار في حال اندلاع حرب على مسرحَيْ عمليات بشكل متزامن.
لذلك، يوصي تقرير «راند» لبناء قدرة أميركية للقتال على ثلاثة مسارح متزامنة في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط لأن نزع الأولوية عن مسرح عمليات محدد يشجع خصوم أميركا على تحدّيها، كما أن التركيز على الصين يوجب الحفاظ على تواجد عالمي يناسب اتساع مصالح الصين وتأثيرها.
إضافة إلى ذلك، هناك ترجيح أن الحرب المقبلة ستكون على مسارح متعددة ضد أعداء متعددين متعاونين ولن تنتهي بسرعة.
يمثّل هذا التقدير للواقع الدولي المستجد مدخلاً رئيسياً في تقديرات صانع القرار الأميركي للتصعيد والحرب مع إيران وحلفائها، حتى لو كان الرئيس الأميركي هو دونالد ترامب.
يكشف ماكينزي أن ترامب سأل في اجتماع بتاريخ 3 حزيران 2020 المخصّص لعرض خطة الانسحاب من أفغانستان عن احتمالات التصعيد مع إيران، فشرح ماكينزي الخطط والاستعدادات وأنه أكيد من النصر لكنه سيكون بأثمان باهظة.
ثم يقول ماكينزي: عندما انتهيت، كان واضحاً أن الرئيس لم يكن مهتماً بالحرب مع إيران التي قمت بوصفها.
وفي شهر كانون الأول 2020 (أي بعد الانتخابات الرئاسية)، طلب ترامب مراجعة الخيارات العسكرية للتعامل مع البرنامج النووي الإيراني، فشعر ماكينزي ورئيس الأركان المشتركة الأميركية بالقلق من اتخاذ ترامب قراراً مفاجئاً بضربات عسكرية (رغم عدم رغبته بالحرب) ولذا كانا مهتمين بعرض ما لديهما من خطط كافية تغني عن الحاجة إلى الحرب.
جرى تقديم العرض في البيت الأبيض متضمّناً الأدوات المتاحة وفاعليتها وأكلاف الحرب في حال حصلت. حينها، يقول ماكينزي، بدا الرئيس راضياً وعقلانياً وغير راغب بالحرب على عكس بعض الحاضرين من فريقه.
داخلياً، تتحرك القوة العسكرية الأميركية تحت ضغط الانقسام الحاد بين الاتجاه التدخّلي (دور شرطي العالم) والاتجاه التقييدي (يقال له الانعزالي أو شبه انعزالي أو «أميركا أولاً»)، وتحت ضغط تصاعد منفلت للدين العام الأميركي مع زيادة متواصلة في موازنة وزارة الدفاع (زاد الإنفاق الدفاعي الأميركي بنحو 50% منذ بداية القرن الحادي والعشرين).
ومن المتوقّع أنه للمرة الأولى ستتجاوز فوائد الدين العام الأميركي (أصبح يُصنف ضمن تهديدات الأمن القومي) قيمة موازنة الدفاع التي تقترب من تريليون دولار سنوياً.
أعاد التحشيد الأميركي في المنطقة للدفاع عن كيان العدو تحريك كل هذه الانقسامات والمخاوف، ويصرّ أنصار الاتجاه التقييدي أن الاتجاه التدخلي يساعد في رفع مخاطر التورط في حروب غير ضرورية وتسريع سباقات التسلّح وتبديد الموارد وإثقال عاهل دافعي الضرائب.
إن الردع المتكامل الأميركي يستوجب تدخلاً أميركياً واسعاً في خيارات الدول الحليفة في المنطقة، وهو بمقدار ما يتيح من ضمانات فإنه يفرض قيوداً ولا سيما مع تباين التصورات تجاه المصالح والتهديدات والمخاطر بين أميركا وحلفائها في أنظمة هشة ومتقلّبة ومتنافسة.
تبدو إدارة بايدن عالقة بين ضرورة تعزيز المظلة الدفاعية عن الكيان وعدم القدرة على تطويع رؤية نتنياهو للحرب، وهو ما يعزز احتمالات انزلاق واشنطن إلى حرب واسعة معدومة الأفق.
وفي مقابل ذلك، لم تغيّر استعراضات القوة الأميركية في أصل الموقف المساند لمحور المقاومة ولا في أهدافه ولا في قرار مهاجمة الكيان مباشرة من إيران واليمن والعراق ولبنان ولو أنها قلّلت من فاعلية الهجمات.
إلا أن ثمن ذلك كان تحويل تهديد «الحرب الشاملة» إلى واقع ملموس في حسابات الجميع، وتظهير كيان العدو «دولة» قاصرة أمنياً ومستتبعة استراتيجياً.
إن إسرائيل المرتبكة والخائفة والمُهانة ذات الرؤية النفقية والمنتشية بفائض القوة العارية تصبح مرساة أثقل بكثير مما يمكن احتماله أميركياً، وأخطر من أن يُترك لها رسم خياراتها مستقبلاً.