مجدّدًا، اشتعلت “الجبهة” المفتوحة في جنوب لبنان خلال الأيام القليلة الماضية، مع تصاعد لافت في وتيرة العمليات، سواء تلك التي ينفّذها “حزب الله” ضدّ أهداف إسرائيلية محدّدة أو دقيقة، أو القصف المضاد الذي يشنّه العدو الإسرائيلي، والذي يتّخذ صفة “العشوائية” في الكثير من الأحيان، علمًا أنّه لم يعد محصورًا بدائرة جغرافية “ضيّقة”، بل امتدّ ليشمل مناطق كانت حتى الأمس القريب، “بمنأى عن” الصراع الدائر منذ الثامن من تشرين الأول
ثمّة من يعزو “التصعيد” الحاصل في الجبهة الجنوبية إلى كسر إسرائيل لكلّ قواعد الاشتباك والخطوط الحمراء، بإقدامها امس على اغتيال القائد العسكري في حزب الله ويام الطويل بعد ضرب “عمق” الضاحية الجنوبية لبيروت الأسبوع الماضي، من أجل اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري مع عدد من رفاقه، مع ما استوجبته هذه العملية من ردّ من جانب “حزب الله”، وإن بقي “أوليًا”، خصوصًا أنّ الحزب كان واضحًا بأنّ مثل هذه الجريمة لا يمكن أن تمرّ بأيّ شكل من الأشكال
لكن ثمّة من يعزو “التصعيد” أيضًا إلى “نفاد الصبر” لدى الجانب الإسرائيلي “المُستنزَف” على الجبهة الشمالية، حيث لا يزال سكان المستوطنات مهجَّرين “قسرًا” من منازلهم، وغير قادرين على العودة إليها، وهو ما يفسّر التصريحات العالية السقف التي خرجت عن بعض المسؤولين الإسرائيلي، ومن بينهم وزير الأمن يوآف غالانت، الذي أكد تصميم تل أبيب على ما وصفه بـ”تغيير الواقع الأمني في شمال إسرائيل وعلى طول الحدود مع لبنان”.
عمليات “مضبوطة”
على المستوى الميداني، يقول العارفون إنّ مجريات المعركة لا تزال “مضبوطة” حتى الآن، إلى حدّ بعيد، على الرغم من التطورات المتسارعة التي شهدها الأسبوع الماضي، بدءًا من عملية اغتيال العاروري، وصولاً بردّ “حزب الله” الذي وُصِف بـ”الأولي”، مرورًا بما سبق وأعقب الرد من قصف إسرائيلي، شمل مناطق بعضها كان خارج دائرة الصراع، على غرار القصف على بلدة كوثرية السياد، الذي وُصِف بالأول من نوعه.
يقول العارفون إنّ “المشترك” بين كلّ هذه الوقائع هو عدم الرغبة بالانزلاق إلى حرب، أو بالحدّ الأدنى محاولة “تجنّب” مثل هذا السيناريو، وهو ما يسري على “السردية الإسرائيلية” مثلاً بعد عملية اغتيال العاروري، حيث كان لافتًا محاولة الناطقين باسمها القول إنّها لم تكن تستهدف الحكومة اللبنانية ولا “حزب الله”، ولو أنّ مثل هذه التبريرات تجاهلت حقيقة أنّ العملية شكّلت “استباحة فاقعة” للسيادة الوطنية.
وبحسب العارفين، فإنّ المعادلة نفسها تسري على ردّ “حزب الله” الأولي على العملية، حيث جاء “مضبوطًا ومدوزنًا” هو الآخر، بحيث لا يبدو مشابهًا للعمليات اليومية التي ينفذها الحزب على الجبهة الجنوبية، وفي الوقت نفسه، لا يؤدي إلى الانزلاق إلى حرب شاملة ومفتوحة، ولذلك ركّز الحزب على اختيار “طبيعة” الهدف، لتكون قيمة العملية في “رمزيتها” بالدرجة الأولى، إضافة إلى حجم الإصابات، وإن جرت العادة ألا يقرّ بها الإسرائيلي سريعًا.
شبح الحرب حاضر
لا يعني ما تقدّم أنّ تصاعد العمليات لا ينذر في مكانٍ ما، باحتمال خروج الأمور عن السيطرة، أو الذهاب إلى حرب فعليّة، ولكنه يعني أنّ الجانبين يتجنّبان هذا السيناريو حتى إشعار آخر، علمًا أنّ مواقف واضحة في هذا السياق صدرت في الأيام الأخيرة عن الجانبين، فوزير الأمن الإسرائيلي قال إنّ تل أبيب “تفضّل” الخيار الدبلوماسي، ولو ألمح في الوقت نفسه إلى انّ احتمالات المواجهة العسكرية باتت أكبر من أي وقت مضى.
في السياق نفسه، تُفهَم المواقف التي أطلقها الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله في خطابيه الأخيرين، فهو كان واضحًا بأنّ الحزب لا يزال حتى الآن “يقاتل بحسابات”، لكنّه سيتحرّر من كل هذه الحسابات في حال وسّع العدو الحرب، وإن وضع كثيرون ذلك في سياق التأكيد على “معادلة الردع” بما يمنع العدو من الإقدام على أي “مغامرة”، ولا سيما أنّ الرجل أبدى كذلك انفتاحًا على المفاوضات، بحديثه عن “فرصة تاريخية” متاحة بعد حرب غزة.
ولعلّ “شبح الحرب” يبدو أيضًا حاضرًا في الحراك الإقليمي والدولي النشط حول لبنان، وقد تجلى في الأيام الأخيرة من خلال زيارة مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، التي جاءت تحت عنوان “تفادي الحرب”، وهو عنوان حضر أيضًا في زيارة المبعوث الأميركي آموس هوكستين إلى تل أبيب، ما يؤكد أنّ “الخطر قائم”، ولو أنّ الرهان يبقى على نجاح المساعي في منع انزلاق الأمور إلى ما لا تُحمَد عقباه.
بعيدًا عن “التضخيم”، يضع البعض التهديدات المتبادلة بين العدو الإسرائيلي و”حزب الله” في سياق “الحرب النفسية” التي لم تنتهِ فصولاً منذ ما قبل الثامن من تشرين الأول الماضي. ما يمنع الحرب وفقًا للعارفين، أنّ الطرفين المعنيّين لا يريدانها، وهذا أكثر من كافٍ برأي هؤلاء، ولو أنّ الخوف يبقى من “خطوة غير محسوبة” يمكن أن تحصل في أي لحظة، ولو أنّ الطرفين يتجنّبان أن يكونا المبادرين إليها!