أمام مشهد “طوفان الكرنتينا” تعود بي الذاكرة إلى خبر استقالة ثلاثة وزراء بلغاريين بسبب حادث تحطم حافلة. بالطبع نحن في لبنان لن نطلب المحال بعد هذه الفضيحة التي حوّلت طرقات لبنان إلى مستنقعات. فالمطالبة باستقالة أو بإقالة الوزراء المعنيين بهذه الكارثة أمر متعذّر، إن لم نقل مستحيلًا. الأسباب كثيرة كما هي الأعذار الواهية وتبادل تقاذف المسؤولية بين الوزراء.
في بلغاريا خبر الاستقالة عادي وطبيعي. هناك تُحترم المسؤولية. هناك يُحاسب المسؤولون عن أي خلل يحصل في القطاعات التابعة لهم مباشرة. فحياة الإنسان في هذه “الكواكب”، التي لا تشبه “كوكبنا”، لها قيمة ولها كيانها، وأن أي تهاون من قبل المسؤولين أو أي استهتار أو خفّة تستوجب اتخاذ الإجراءات الكفيلة بعدم تكرار أي حادث مماثل، وعدم تعريض المواطنين للخطر أو الأذى، وأن على المسؤول أن يتحمّل مسؤوليته ويقدّم حسابًا أمام شعبه عمّا فعله وعمّا لم يفعله، وهو مطالب بأن يكون على قدّ المسؤولية والمهمة الموكلة إليه.
في لبنان هكذا حادث يمكن أن يكون خبرًا عادّيًا على مستوى ردّات فعل المسؤولين عنه، الذين ربما يكتفون بقلب الشفاه أو هزّ الكتفين، ولكنه يحظى باهتمام الإعلام الذي أعطاه بعدًا في كيفية تحمّل المسؤولية ومحاسبة المقصرّين والمهملين والمستلشقين بحياة الناس.
وعلى رغم زحمة الدوافع والمسببات التي تدفع بعض المسؤولين عندنا إلى عدم تحمّل مسؤولياتهم كاملة، فإننا لم نشهد في تاريخ العمل السياسي مسؤولًا واحدًا كانت لديه الجرأة للاعتراف بتقصيره، والذي بسببه قد تكون وقعت كوارث عدّة، وإن لم تكن نتائجها وانعكاس ضررها ظاهرًا للعيان على المدى المنظور، بالمعنى المباشر لكلمة أضرار، منها المادي ومنها المعنوي، إذ غالبًا ما نرى المسؤول يسابق المواطن في التعبير عن استيائه من الحال التي وصلت إليها البلاد. وبدلًا من أن يكون هو المشكو منه يصبح شاكيًا وباكيًا على طريقة “ضربني وبكى سبقني وأشتكى”.
قد نكون من بين المزايدين إذا طالبنا بمحاسبة جميع المسؤولين الذين كانت لهم علاقة من قريب أو من بعيد بكارثة الفيضانات، التي يبدو أن إيجاد حل لها لن يكون في المدى المنظور أو قبل أن يصبح مفهوم المسؤولية شاملًا ومتكاملًا.
ما شاهده اللبنانيون عن بعد، وما عاشه كثيرون منهم عن قرب، أمر لا يصدّق.
وكيف يمكن أن نصدّق أن المحاسبة آتية، وأن إبقاء الوضع على ما هو عليه لم يعد من الجائز السكوت عنه، ونحن نطوي الأيام تلو الأيام على فراغات قاتلة أقله على مستوى رئاسة الجمهورية. ولا من يحاسب.
كيف يمكن أن نصدّق أن العدالة ستأخذ مجراها ونحن لا نزال ندور في حلقة مفرغة حول مصير التحقيق في “انفجار العصر”.
كيف يمكن أن نصدّق أن الوضع آيل إلى التحسّن وجنى العمر قد أصبح في خبر كان.
مع كل اتصال اطمئنان نجريه في شكل يومي مع أحد الأقارب أو الأصدقاء في الوطن الأم يتأكد لنا بالعلم اليقين أن اللبنانيين يعيشون ولا يعيشون في وقت واحد. يعيشون لأنهم يعشقون الحياة. ولا يعيشون لأننا نسمعهم يقولون لنا مع كل اتصال: “نيالكم”.
يا ريت فينا “نهج” لكنا فعلناها من زمان وتركنا الوطن الذي نحبه وسنبقى نحبه على رغم أنف من كرّهونا العيش فيه، مع فائق التقدير لمن لا يزالون يؤمنون بأن لبنان لن يموت وسيعود ويقف على رجليه من جديد، وأنه متجذّر بهذه الأرض التي أعطت قديسين ولن يتركوها أيًّا تكن الصعوبات. وما يعيشه اللبنانيون من محن متلاحقة ليست بجديدة وقد عاشها أجدادهم من قبلهم، ولم يتركوا هذه الأرض المندورة للرب، وفضلوا الاستشهاد على أن يتركوها للغرباء، وكانوا كثرًا.
فلبنان ببناه التحتية بلد “صيفي” بامتياز. فالمتعهدون على تنوعهم لم يأخذوا في الحسبان أن الأمطار ستكون غزيرة في مواسم الشتاء، ولم يحسبوا أيضًا أن ذمة البعض قد تكون فضفاضة بعض الشيء.