ليس تفصيلاً أن يبقى طلاب المدارس الرسمية في مهب الريح للسنة الرابعة على التوالي من دون معرفة مصير عامهم الدراسي المقبل، وعما اذا كانت المدارس الرسمية ستفتح أبوابها أم انهم سيكونون ضحية العراك الحاصل بين أساتذة التعليم الرسمي (بكل مراحله) وبين وزارة التربية، بعد ضمور قيمة رواتبهم الى حدها الادنى (بين 50 و100دولار)، بسبب الانهيار الاقتصادي الحاصل والتلكؤ في معالجته من قبل المنظومة السياسية الحاكمة.
الامر لا يتعلق فقط بالخسائر التربوية التي يتكبدها الطلاب على أهميتها، بل أيضا بالخسائر الاقتصادية والآثار الاجتماعية لتراجع مستوى التعليم الرسمي في لبنان، والذي يؤدي الى تقسيمهم بين طلاب مدارس خاصة يتلقون تعليمهم وفقا للمعايير الدولية المطلوبة، وبين طلاب المدارس الرسمية الفقراء الذين يتعلمون نصف المنهج الدراسي المطلوب وأحياناً أقل. ولا عجب أن البنك الدولي أطلق العام الماضي مفهوم «فقر التعلم» على شرائح من طلاب لبنان، بعدما باتت الازمة الاقتصادية تهدد مستقبلهم التعليمي بسبب تراجع اداء التعليم الرسمي وتكرار الاضرابات الحاصلة فيه، حيث اشار في دراسة بعنوان «التأسيس لمستقبل أفضل: مسار لإصلاح التعليم في لبنان»، إلى أن انخفاض مستويات التعلّم وعدم التوافق بين المهارات واحتياجات سوق العمل يعرّضان مستقبل الأجيال الصاعدة في لبنان للخطر». ولذلك كلفة اقتصادية بالغة ابرزها ان المتعلمين اقل يتعرضون للبطالة اكثر من غيرهم كما انهم اقل ابداعاً وانتاجية من المتعلمين جيداً. كما ان الاقتصاد يقوم على قوى انتاجية الى جانب الرساميل، فاذا كانت تلك القوى ضعيفة فلا يغامر رأس المال كثيراً في الاستثمار… وكل ذلك يؤثر في معدلات النمو وخلق فرص العمل.
إحصائية
وبلغة الارقام (بحسب رابطة التعليم الثانوي الرسمي) يبلغ عدد مؤسسات التعليم الرسمي 1235 مدرسة، تضم نحو 342 ألفا و304 طلاب، ويقدر عدد أساتذتها بأكثر من 55 ألف أستاذ، ويبلغ عدد المدارس الخاصة نحو 1209 مدارس، ويعمل فيها نحو 51 ألفاً و215 أستاذاً. كما يبلغ عدد المدارس الخاصة شبه المجانية نحو 352 مدرسة، يعمل فيها نحو 7 آلاف و468 أستاذاً، وفق «الدولية للمعلومات».
«فقد تعليمي» لا يعوّض!
ان علاقة التعليم بالتنمية الاقتصادية هي علاقة تفاعلية، والتداعيات الاقتصادية للانهيار الحاصل في التعليم الرسمي هو التسرب المدرسي بسبب ازدياد نسبة الفقر، اذ لم يعد بمقدور عدد كبير من اللبنانيين تسجيل أولادهم، سواء في الجامعات أو في المدارس، لا سيما مع ارتفاع أسعار المحروقات التي وصلت إلى حدود خيالية، عدا عن المستلزمات الدراسية من قرطاسية وغيرها، والحاجات اللوجستية (كهرباء وإنترنت).
نمر فريحة
من التداعيات الاقتصادية أيضا هجرة الكفاءات التعليمية من المعلمين والأساتذة والاداريين من ذوي الخبرة، من المدارس الرسمية على وجه الخصوص إلى الخارج، بحثاً عن فرصة عمل أفضل تساعد صاحبها على تجاوز وتخطّي هذه المرحلة. وفي هذا الاطار يشرح الرئيس السابق للمركز التربوي للبحوث والانماء الدكتور نمر فريحة لـ»نداء الوطن» أن الوضع الاقتصادي بدأ بالتراجع خلال العام 2019 – 2020 مع انهيار قيمة الليرة مقابل الدولار الاميركي كنتيجة للفساد السائد في الدولة، ومن الطبيعي ان يكون الثمن هو مال الناس والدولة. ولم تحصل أي معالجة جدية وحقيقية ولذلك انتهى الامر بأن انهار الاقتصاد وقيمة الليرة، ومن الطبيعي أن الاساتذة الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية أن يكونوا أولى ضحايا هذا الانهيار».
بحسب فريحة «ارتباط التربية بالاقتصاد يأتي من زاوية رواتب الاساتذة في القطاع الرسمي ما قبل الجامعي، فعندما اضرب الاساتذة والعاملون في هذا القطاع لزيادة رواتبهم حصل «فقد» تعليمي، والاضرابات التي حصلت لم تعوض أبداً من الناحية التعليمية وكانت مجرد اضرابات مطلبية، علما أن الاضرابات كانت تمتد بشكل متواصل لأكثر من شهر، وبالتالي أول اثر اقتصادي هو اضرابات طويلة من دون تعويض على الطلاب بسبب الانهيار الاقتصادي».
كيف يمكن التعويض؟
يضيف: «هذا الامر انعكس سلباً لجهة تقليص أيام الدراسة وتقليص محتوى المنهج الذي يجب أن يعطى للطلاب ووصل الامر الى نصف المنهج، والسؤال هو كيف يمكن التعويض على طالب تعلم نصف المنهج التعليمي المطلوب؟»،لافتاً الى أن «هذا الوضع استمر 4 سنوات ولهذا أدى الى ما يسمى «بالفقد التعليمي» لأنه استمر على سنوات متتالية من دون تعويض، وهذا يعني أن الطلاب خسروا خلال 4 سنوات دراسية سنتين كاملتين سيدفعون كلفة تعويضهما ماديا لاحقاً في الدراسة الجامعية، لأنه عليهم أن يخضعوا لدراسة مقررات علاجية تعوض ما فاتهم من مواد خلال فترة الدراسة المدرسية، من دون أن تحتسب من ضمن المواد الاساسية التي سيدرسونها خلال الدراسة الجامعية لاتمام اختصاصهم، بمعنى أن عليهم دفع كلفة دراستهم الجامعية وكلفة تعويض ما فاتهم».
تراجع المستوى؟
يجزم فريحة أن «ما سببه الانهيار الاقتصادي من أذى للتربية لا يعوّض وسيظهر لاحقاً مع الخريجين الذين يعانون من الضعف الدراسي الذي رافقهم خلال فترة المدرسة، لأن معايير الدراسة الجامعية هي معايير عالمية ولا يمكن للطالب الضعيف دراسياً أن يتجاوزها بسهولة»، مشدداً على أنه «من الآثار الاقتصادية لتراجع التعليم الرسمي هو أن عدداً كبيراً من اساتذة التعليم الرسمي، تركوا العمل في القطاع ولا يلامون على هذا الامر خصوصاً أن راتبهم لا يتجاوز 60 دولاراً لا تكفي لدفع فاتورة الاشتراك الشهري للكهرباء مثلا».
نتائج سيئة
ويرى أنه «اذا استمرينا يعني اننا نسير في ركب التخلف عن المستوى التربوي العالمي عاماً بعد عام، و هذا ما اثبتته الامتحانات الدولية التي يخضع لها الطلاب اللبنانيون (بعكس كل الادعاءات التي تحصل) اذ تفيد النتائج ان طلابنا يحتلون المراكز الاخيرة في نتائج امتحانات الدولية تيمز,timss و PIZA/ بيزا وأنهم متخلفون عن الطلاب الآخرين بمعدل سنتين، وهذا ليس فقط بسبب الانهيار الاقتصادي بل لأننا نعيش وضعاً تربوياً صعباً مع ادعاء العكس»، معتبراً أن «هذه الادعاءات لا تبني تربية ناجحة. ومع ذلك، للاسف نحن في مجتمع قابل لأن يكون ضحية الادعاءات بدل أن يضع النقاط على الحروف، اي أين نحن تربوياً وأين يجب أن نكون وما هي خريطة الطريق التي يجب اتباعها ليس فقط للتعليم ما قبل الجامعي بل أيضا للتعليم الجامعي. الارتجالية مسيطرة والمعالجة سطحية وسيزيد تراجعنا الى الخلف».ويختم: «من آثار تراجع التعليم الرسمي هو خلق هوّة بين طلاب ميسورين يمكنهم تلقي تعليمهم بشكل مقبول في المدارس الخاصة، وبين طلاب فقراء محرومين من التعليم وفق المعايير الصحيحة أو كما يقال بالعامية «ابن الغني بيتعلم وابن الفقير بيطلع بلا علم».