مقالات

ماذا ينتظر لبنان في ظل التجاذبات العربية والإقليمية والدولية في سورية؟

ماذا بعد سورية؟! سؤال كبير جداً لا يتردّد في لبنان بشكل مباشر فحسب، بل في الأقطار العربية كلّها، ولا سيّما في الدول المجاورة كالأردن ومصر تحديداً، فيما يرتسم الكثير من التساؤلات والمخاوف من ارتدادات الزلزال السوري على كل من العراق وإيران وتالياً السعودية والإمارات، حيث إن الأوراق الداخلية في سورية تختلط بين من ينادي بإقامة نظام إسلامي وهو حال الفصائل المتشدّدة التي انضوت تحت راية “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقًا المصنفة دوليًا منظمة إرهابية) بزعامة أبي محمد الجولاني، وبين من يدعو إلى بناء دولة ذات طابع مدني ديمقراطي تستجيب للشروط الأمريكية والأوروبية، ووفق مواصفات تأخذ بالكيان العتيد نحو الانسجام مع بوتقة المنظومة العربية المعتدلة، وبما يتناسب مع الرؤية الشاملة التي تريدها واشنطن لمنطقة ما يسمّى “الشرق الأوسط”.

اللافت للنظر كان خلع قيادات تنظيم “النصرة” سابقاً زيّهم “الجهادي” الذي يستحضر لباس وعمامات أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأبي مصعب الزرقاوي، وارتداءهم البذلة وربطات العنق، حيث غدوا جميعهم حاسري الرؤوس مع تسريحة مناسبة للشعر وتشذيب متقن للّحى، وهذا ما تتطلّبه الصورة الجديدة لسورية الغد بشخصيات منفتحة؛ ولكن اللافت أيضاً استمرار القائد العام لفصائل المعارضة المسلّحة أبي محمد الجولاني (أحمد الشرع) بوضع مسدسه الحربي تحت بذلته الرئاسية الفاخرة تأكيداً على سماته الحربية، ما يؤشر إلى استمرار تأثره بخلفيته العقدية المتشدّدة.

وقد لا يعير الغربيون هذه التطرّفات الكثير من الاهتمام، فالأساس عندهم يتجاوز الشكل باتجاه تحقيق الأهداف، وما يهمّ الأمريكيين والأوروبيين في التعاطي مع الشأن السوري يرتكز على نقطتين أساسيتين.

الأولى: التأكيد على “قطع أيدي” روسيا وإيران والحد من نفوذهما في المنطقة وإزالة أثرهما نهائياً في سورية.

والثانية: مواجهة أي نشاط مستجدّ لتنظيم “داعش”، وبرز ذلك في تلميح الوزير الفرنسي إلى وجود “عشرات آلاف المقاتلين الإرهابيين من “تنظيم الدولة” المعتقلين في السجون شمال شرق البلاد”، وهذا يتيح للدول الأوروبية تنظيم عودة النازحين السوريين إلى بلدهم دون عقبات، أما الشؤون الأخرى الداخلية فهي متروكة لواشنطن للاعتناء بها ومعالجتها في إطار تهيئة المنطقة لمشروع التسوية الشاملة.

وللإنصاف، فإنه ليس منطقياً توقّع انقلاب شامل وسريع لقادة “النصرة” بما يتوافق مع الثقافة الغربية السائدة على مستوى المظهر والسلوك، فهذا الأمر لن يكون مستساغاً لدى الفصائل التي تنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية في سورية ما بعد نظام الأسد، وستخلق للجولاني مشاكل كبيرة تضاف إلى التحديات التي يواجهها في جمع تشكيلات “هيئة تحرير الشام” في بوتقة “الدولة الواحدة”، ولكن ما يرصده المراقبون من خطوات وقرارات حول “أسلمة” الدولة، من قبيل تعديل المناهج التربوية واعتماد التشريع الإسلامي في القوانين والمراسيم والحقوق العامة والخاصة في الوزارات المعنية، فضلاً عن التعيينات (المتعدّدة الجنسيات العربية) التي أجراها الجولاني مؤخراً في التشكيلات الإدارية والعسكرية الرسمية، تطرح العديد من المؤشرات والمخاوف من الآثار التي قد تترتّب عن هذه “الأسلمة” إزاء العلاقات الخارجية والصلات الرسمية مع الدول العربية والغربية.

وما يعكس هذه المخاوف الأداء الإعلامي لبعض الفضائيات العربية والإعلاميين العرب، ولا سيما في كل من السعودية والإمارات ومصر بشكل خاص، حيث تسلّط التقارير الإخبارية والمقابلات والحوارات السياسية على مكامن الخلل والأخطاء التي يقع فيها مسؤولو الحكومة المؤقتة في سورية، وتحذّر من خطورة ما يجري على الأرض السورية من طغيان لهيمنة تيار “الإخوان المسلمين” وتمدّد هذه الهيمنة وصولاً إلى تهديد الأنظمة العربية الحاكمة وخصوصاً في الأردن ومصر والسعودية والإمارات، وتركّز على الدور التركي المباشر الذي ينشط في الحدائق الخلفية وإعطاء التوجيهات حول إصدار القرارات السياسية والعسكرية والأمنية.

ويسود انطباع قوي لدى عواصم هذه الدول أن الجولاني هو فعلياً بمثابة حاكم ولاية تابع لأنقرة، وأن تركيا ماضية بشكل حثيث للسيطرة على القرار السوري بكافة مندرجاته وتطبيقاته الإدارية والتنظيمية، وما يعزّز هذه المخاوف التصريحات والمواقف التي يطلقها بعض “أمراء” الفصائل ويحذّرون فيها قادة بعض الدول العربية من أن الدور (في التغيير) سيصل إليها عاجلاً أم آجلاً، ومن المعروف أن هذه الدول على طرف نقيض سياسي وعقائدي مع تركيا التي يجهد رئيسها رجب طيب أردوغان في فرض سيادته على القرار الإسلامي والعربي، وليس فقط فرض هيمنته جغرافياً على معظم أراضي سورية وعلى قرار دمشق الرسمي بحلّتها الجديدة.

أما لبنان المأزوم بتناقضاته الداخلية وتعقيدات ملفاته السياسية فسيكون على موعد مع تباينات أكيدة وحتمية بشأن مرجعيته العربية التي لم تنفصل يوماً عن الولاية السعودية والرعاية المصرية، دون أن نغفل التعدّدية الدينية والعرقية الإسلامية والمسيحية فيه بما يضعه في خانة الاهتزاز والتجاذبات العميقة بشأن مستقبل العلاقة مع سورية الجديدة بمرجعيتها الأردوغانية، ولئن تضمّنت تصريحات الجولاني خلال لقائه وليد جنبلاط ونجيب ميقاتي ومضمون الاتصال بينه وبينه الرئيس المنتخب جوزف عون تطمينات عامة حول مستقبل العلاقة اللبنانية – السورية، إلا أن الأنظار تتجه إلى طريقة مقاربة العهد اللبناني الجديد في معالجة الملفات والقضايا الداخلية المرتبطة بالشأن السوري، والتوازن في العلاقة مع الرياض ودمشق، وكذلك مع أبو ظبي التي باتت تمتلك الكثير من خيوط التأثير في الداخل اللبناني، وهي في حال اشتباك متصاعد مع الجولاني.

إن كلّ ما سبق يطرح إشكالية جدّية وكبيرة في التعاطي العربي المستقبلي مع الشأنين اللبناني والسوري، فعلى الرغم من اختلاف نظام الحكم في دمشق فإن عامل الارتباط الجيوسياسي بين البلدين يفرض نفسه على خارطة المستجدّات الإقليمية والدولية، ويستدعي الالتفات إلى المخاطر التي قد تنشأ عن حال التشظّي وعدم الاستقرار في ظل التغوّل “الإسرائيلي” الطامح إلى اجتياح المنطقة بأكملها، ولعلّ الخطر الأكبر يكمن في تباين التوجّهات العربية نفسها في مقاربة الملفات اللبنانية بما يضاعف الأزمة ويسهم في تعميقها، بدلاً من معالجتها لصالح تماسك الدولة والشعب ووحدة مكوّناتها الوجودية.

المصدر: العهد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى