مقالات

إياكم أن تُصبح جنين “ألتالينا” الفلسطينية!

إذا كانت “إسرائيل” قد خشيت على نفسها من مجرد احتجاجات وتظاهرات عمّت شوارعها، فمن باب أولى أن نخشى ونُحَذّر من أن ما يجري في جنين بات لحظةً مفصلية خطيرة جداً في مسيرة نضالنا التحرري.

قبل ما يقارب سنتين من الآن، وتحديداً في أوج التظاهرات والاحتجاجات الإسرائيلية الجارفة ضد التعديلات القضائية التي أراد نتنياهو وحكومته فرضها على المجتمع الإسرائيلي، نَشَرتُ مقالاً في الميادين نت عَنونتُه “هل ترسو ألتالينا سفينة الحرب الأهلية الإسرائيلية عند شواطئ يافا مرةً أخرى”؟

في إشارة إلى حادثة قصف السفينة الإسرائيلية “ألتالينا”، بعد أيامٍ قليلة من إقامة “دولة إسرائيل” عام 1948، والتي كادت أن تقود إلى حرب أهلية “مُصغّرة” لم تكتمل فصولها في “الدولة” العبرية الوليدة وقتها.

كان مناحيم بيغن يقود تنظيم “الإيتسيل”، الذي لم يكن رسمياً ضمن القيادة الإسرائيلية، بل كان أشبه بشريكٍ لتنظيم يهودي آخر هو “الهاغاناه” الذي كان يقوده ديفيد بن غوريون.

لم يكن بيغن القومي وبن غوريون الاشتراكي متفقين في الأفكار والسياسات، فقد كان لكلّ منهما مواقف متناقضة تخص فكرة إنشاء “دولة إسرائيل”، وكيفية التعامل مع الحرب التي تهدف إلى فرض الدولة الجديدة على خريطة العالم، بل وجّه بن غوريون، أول رئيس وزراء ل”إسرائيل”، اتهاماتٍ متعددة إلى بيغن حينها، أبرزها أنه فاشٍ ويشبه هتلر، في درجةٍ كبيرة.

أراد بن غوريون تفكيك كل التنظيمات المسلحة بهدف دمجها في جيشٍ واحد يمثل “دولة إسرائيل”، مؤكداً أنه لا يجوز أن يكون هناك توزيعٌ للسلاح على اليهود ليتحوّلوا إلى تنظيمات تَعُمُّها الفوضى، ومُشدداً على أن “الجيش الإسرائيلي هو فقط المسموح له بامتلاك السلاح واستخدامه”.

فطلب بن غوريون من أعضاء تنظيم “الإيتسيل” أن يسلّموا كل الأسلحة التي كانت تحملها سفينة ألتالينا، القادمة من فرنسا، إلى الجيش اليهودي.

لكن بيغن أصر على الاحتفاظ بجزءٍ من هذه الأسلحة، وهنا بدأت شرارة الحرب الأهلية، إذ عدّت “الدولة” الإسرائيلية هذا الأمر تهديداً لها، وتعامل بن غوريون مع هذا الرفض باعتباره تمرداً رسمياً على قرارات حكومة “إسرائيل”.

صَعدَ بيغن على السفينة وقرر التمرد، فلم يتسامح بن غوريون مع ذلك، وعدّه إعلانَ حرب، وطلب من “الجيش” وقتها قصف السفينة.

وكان الهدف كسر تنظيم “الإيتسيل”، فشهد الساحل الفلسطيني حرباً أهلية بين أفراد مختلف التنظيمات اليهودية، ثم تحوّلت النيران في اتجاه ألتالينا.

اليوم، بعد ما يقارب 77 عاماً على تلك الحادثة، وفي ضوء ما يجري في جنين، نجد أنفسنا مضطرين للتذكير بمخاطر نُذر الحرب الأهلية الداخلية على الساحة الفلسطينية في أوج التحديات التي تعصف بشعبنا وبقضيتنا في ظل حكومة صهيونية يمينية متطرفة ترى في ما يجري فرصة سانحة للخلاص من الشعب الفلسطيني وقضيته إلى غير رجعة.

ويبدو كذلك أننا نخوض حقل ألغامٍ سياسياً، فالتوترات بين السلطة الفلسطينية والمقاومة، على خلفية ما يجري في جنين، تتصاعد، وأزمة الثقة تتصاعد وتضع الجميع عند مفترق طرق، وقد تقود، لا قدّر الله، إلى استمرار التصادم والاقتتال بين أبناء الشعب الواحد.

ومع أن تعاطي الطرفين الإسرائيليين المتصارعين مع حادثة السفينة المذكورة في حينه أثمر بقاء وبناء “إسرائيل القوية” التي نراها اليوم.

فمن غير المرجح أن يقود حسم النزاع الحاصل في جنين اليوم لمصلحة أحد الطرفين الفلسطينيين المتخاصمين إلى أن نرى فلسطين “المستقلة” التي نرنو إليها جميعاً سُلطة ومعارضة معاً، ما لم نضع خلافاتنا جانباً ونتفق منذ الآن على برنامج وطني تحرري شامل يمازج بين المقاومة والعمل السياسي ويجنّب شعبنا ويلات الاقتتال ونتائجه الكارثية.

والواقع أنني لم أشأ في هذه المقاربة أن أُفصّلَ في أوجه الاختلاف أو الشبه بين المشهدين والمآلات المحتملة للتوتر القائم في جنين.

إنما أردت أن أسوقَ ردود فعل الإسرائيليين على مجرد تذكيرهم بحادثة السفينة المذكورة وربطها بما جرى في المجتمع الإسرائيلي من صراع حول التعديلات القضائية كاد يقود إلى حرب أهلية إسرائيلية.

بهدف التذكير والتنبيه إلى أهمية ما يجري فلسطينياً لدى العدو الإسرائيلي الذي لا يقل شغفاً وتحفزاً في انتظار ما ستسفر عنه الحالة المتأزمة في جنين.

كان لافتاً أن كل الأصوات والأقلام التي تناولت المقالة المذكورة، بعد نشرها، ركّزت بشكل خاص على تنبيه الإسرائيليين وتخويفهم من أن هذا الصراع الداخلي الإسرائيلي “يخدم أعداءنا العرب والفلسطينيين” وبأنهم، أي الفلسطينيون “يتربّصون بإسرائيل ويشمتون بما يجري داخلها”.

حتى إن نتنياهو شخصياً تناول المقال المذكور في معرض كلمته قبل شهرين في الذكرى السنوية لإحياء حادثة السفينة المذكورة، والتي قال فيها بالحرف الواحد “حتى ما قبل الحرب الراهنة كتب صحفي فلسطيني مقالاً يقول فيه “هل سترسو ألتالينا سفينة الحرب الأهلية الإسرائيلية عند شواطئ يافا مرةً أخرى؟ وهل سيتصاعد منها الدخان مجدداً.

والكاتب لا يطرح هذا السؤال بشكل نظري أو بلاغي، بل يتمنى أن يحدث ذلك. فلا يجوز لنا أن نسمح بذلك، وهذا الأمر يعتمد علينا فقط، حكومةً ومعارضة، وآمل أن دروس ألتالينا قد تم استيعابها وحفظها، إذ إن الانقسام يعكس الضعف أما الوحدة فهي شرط الانتصار”.

واليوم، وبصورة معاكسة ومؤلمة، لا يجد المتابع للإعلام الإسرائيلي وتصريحات المسؤولين الإسرائيليين صعوبة في أن يستنتج أن الإسرائيليين يرون في ما يجري في جنين فرصة ذهبية لإيذائنا، يحاولون استغلالها إلى الحد الأقصى عبر الانتصار لهذا الطرف ضد ذاك، وطبعاً لا حباً في هذا ولا ذاك، إنما رغبة وقناعة بأن هذه فرصة سانحة لتفتيتنا عبر تعزيز خطاب الكراهية والتحريض والانقسام الذي عاد ليستفحل في واقعنا وينذر بمزيد من الفرقة والتشرذم.

وإذا كانت “إسرائيل الدولة القوية” قد خشيت على نفسها من مجرد احتجاجات وتظاهرات عمّت شوارعها وحذّر سياسيوها ومفكروها ونُخَبها من خطورة توظيفها من قبل خصومها العرب، فمن باب أولى ونحن الشعب الأعزل الأضعف أن نخشى ونُحَذّر من أن ما يجري في جنين، ويد “إسرائيل” العابثة ليست بعيدة عنه، وبنادق جنودها التي تقطر من دماء أبناء جنين ومخيمها على مرمى أمتار معدودة مما يجري، بات لحظةً مفصلية خطيرة جداً في مسيرة نضالنا التحرري، ومن غير المسموح ومن غير الأخلاقي أو الوطني أن نسمح أن يتصاعد الدخان من سفينتنا التي يكفيها ما يتلاطمها من أمواجٍ عاتية، وإلا فإننا جميعاً مُهددون بالغرق!

محمد هلسة – الميادين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى