في تقريره الأخير، قدّر البنك الدولي الأضرار المادية المتعلّقة بالقطاع الزراعي بنحو 124 مليون دولار، فيما قدّر أن الأضرار التي ستلحق بالزراعة على مدى 12 شهراً تبلغ نحو 1.1 مليار دولار. وبحسب البنك الدولي، هذا الأمر يمثّل الخسائر الناتجة من الحرائق وهجرة الأراضي الزراعية، والمواشي التي أصيبت وماتت، وخصوصاً في البقاع والجنوب اللذين شهدا دماراً إسرائيلياً قوياً في فترة الحرب.
نظرياً، هذا هو حجم الخسائر لغاية تاريخ إعداد التقرير في نهاية الأسبوع الأول من تشرين الثاني الماضي. إلا أنه على أرض الواقع، تتطلب معاينة أكثر دقّة للأضرار والخسائر، ما يعني أن يكون للدولة ومؤسساتها إرادة في إنجاز الملف.
المشكلة الأساسية تبقى في التمويل، علماً أن لدى لبنان تعهدات بالمساعدات المالية قدّمتها الدول المانحة في مؤتمر باريس الأخير.
خسارة المواسم
تظهر الأضرار بشكل مباشر وغير مباشر وفي التقارير التي صدرت، بعضها محسوب وبعضها ليس محسوباً. فالحرب خلّفت محاصيل متروكة على أمها في الكثير من المناطق التي شهدت العنف الإسرائيلي.
وبحسب رئيس جمعية المزارعين أنطوان حويك، خسر مزارعو البقاع موسم البطاطا، بالإضافة إلى جزء من موسم الخضر الذي كان في نهايته مع اشتداد الحرب.
وشملت الأضرار في محافظة البقاع نحو 500 ألف دونم من الأراضي الزراعية. الأمر نفسه يتكرّر في الجنوب الذي شهد على مدى 11 شهراً أضراراً كبيرة في المحاصيل، وخصوصاً في المناطق الحدودية.
وبعدما توسّعت الحرب، أصبح الجنوب كله تحت النار، وأصبح القطاع الزراعي في كل الجنوب في حالة سيئة، إذ لم يتمكّن المزارعون من الوصول إلى محاصيلهم بسبب مخاطر استهدافهم من قبل العدو.
وبحسب البنك الدولي، محافظات البقاع والنبطية والجنوب هي مناطق زراعية بارزة توفر معظم المنتجات الزراعية للأسواق المحلية والدولية.
وقد أسهم قطاع الأغذية الزراعية بما يصل إلى 80% من الناتج المحلي الإجمالي لهذه المناطق.
كانت محافظة الجنوب وحدها مسؤولة عن 64% من إنتاج الحمضيات في لبنان، و94% من مزارع الموز، و15% من أشجار الزيتون، و44% من أشجار الفاكهة الاستوائية، بما في ذلك 63% من أشجار الأفوكادو.
فيما أنتج البقاع 70% من عنب لبنان، 30% منها تستخدم لصناعة النبيذ.
غياب التمويل سيعرقل تعافي في القطاع الزراعي
لم تقتصر الأضرار على المناطق التي شملت العدوان الإسرائيلي، بل امتدت إلى مناطق أخرى بسبب انعكاس الحرب غير المباشر. فبسبب الحرب، شهد الاستيراد تفلّتاً، أَسهَم في ضرب الإنتاج المحلّي.
ويقول حويك إنه، على سبيل المثال، دخلت خلال الحرب، عبر سوريا، بندورة بيعت في السوق بسعر 20 ألف ليرة للكيلوغرام الواحد، في حين أن البندورة المنتجة في المناطق الجبلية في لبنان يُكلّف إنتاجها نحو 40 ألف ليرة للكيلوغرام الواحد، وهذا ما ضرب موسم البندورة في المناطق الجبلية التي كانت بعيدة عن أجواء الاعتداءات الإسرائيلية.
المشكلة هنا، بحسب حويك، أن المزارع الذي خسر موسمه هذا، خسر رأس ماله عملياً، وهو ما يطرح سؤالاً حول قدرة المزارع على إعادة تمويل الموسم المقبل.
أيّ تعويض؟
وفي تقديرات حويك، هناك 60 ألف مزارع متضرّر من الحرب بنسب متفاوتة. ولا يبدو أن هناك آلية واضحة للتعامل مع هذه الخسائر، إذ إنها تحتاج إلى عملية طويلة تبدأ بمسح الخسائر وإحصائها عند كل مزارع متضرّر.
يضرب حويك مثلاً: في أزمة التفاح سنة 2016، عندما قررت الدولة صرف 27 مليون دولار للتعويض عن 20 ألف مزارع متضرّر بسبب عدم قدرتهم على إيجاد أسواق لتصريف إنتاجهم، تبيّن أن عامل الوقت يلعب ضدّ المزارع، ففي حينه قرّرت الحكومة تكليف الجيش اللبناني لتقدير الخسائر في عملية استغرقت نحو أربعة أشهر، اي أن التعويض، إن أتى، فهو أتى بعد الموسم التالي. اليوم هناك عدّة تساؤلات لفكرة التعويض عن خسائر المزارعين. بدايةً، هناك حاجة لإقرار النية بالتعويض عن هؤلاء، إذ إن الدولة لم تعوّض خسائر المزارعين بعد حرب تموز 2006.
ثانياً، هناك حاجة لمعرفة حجم التمويل للتعويض عن الخسائر.
فإذا افترضنا أن أرقام البنك الدولي صحيحة، فهناك حاجة لنحو 1.3 مليار دولار للتعويض للمزارعين. لكن حتى لو توفرت هذه الأموال، هناك مشكلة في الآلية.
لذا، يسأل حويك: «كيف سيتم مسح الأضرار والخسائر؟ ومن سيتولّى هذا الأمر؟ الجيش اللبناني اليوم ليس لديه القدرة على إجراء المسح لأن لديه مهام أخرى ليقوم بها في الجنوب وهو بحاجة إلى كل عنصر من عناصره».
فالمزارع الذي تعرّض للخسارة في المحصول أو في الموسم أو في الأضرار المباشرة للأشجار والبساتين، لن يستطيع أن ينتج الموسم القادم حتى، ما يعني أن الأضرار لن تقتصر على الحرب الآن، بل ستمتد على سنوات قادمة في حالة عدم التعويض. لذا، يشهد القطاع الزراعي تحدّياً وجودياً بعد الحرب وهو متعلّق بالتعويض عليه.
يقول حويك أن عدم إقرار قانون صندوق الضمان الزراعي ضدّ الكوارث، وضع القطاع في هذا المأزق بعد الحرب.
فهذا الصندوق، لو وجد، كان لديه الآليات المناسبة للتعامل مع هذا النوع من الكوارث والتعويض عليها.
إذ يكون لديه خبراء خاصون به يستطيعون مسح الأضرار والخسائر، وهو يستطيع أن يموّل نفسه للتعويض عن هذه الأضرار.
مشكلة في التمويل
يقول تقرير البنك الدولي إن قطاع الزراعة عانى من ضعف بسبب الأزمة الاقتصادية في عام 2019، والتي حدّت من الاستفادة من التمويل، وتفاقمت هذه المعاناة بسبب ضعف تكامل سلاسل القيمة، وغياب الفعالية في المؤسسات العامّة المختصة بالقطاع. تشير سلاسل القيمة إلى سلسلة الخطوات الممتدة بين إنتاج وتسليم المنتجات الزراعية.
وعندما يقول البنك الدولي إنها تعاني من ضعف في التكامل، يعني أن هذه الخطوات لم تكن تعمل بشكل جيد معاً.
يضع البنك الدولي يده على الجرح عندما يتحدّث عن غياب التمويل، فحتى قبل أزمة 2019، لم تكن المؤسسات التمويلية (أي المصارف الخاصة) تقبل بإقراض المزارعين، بحسب حويك.
وعندما كان هناك جهود لإنشاء مصرف وطني للإنماء الزراعي، الذي يستطيع أن يُقدّم التمويل للمزارعين، تم إفشالها.
واليوم، مع وقوف القطاع الزراعي أمام تحدّي النهوض ما بعد الحرب، من المهم التذكير بأن غياب التمويل سيكون له دور في عرقلة عملية التعافي وتأخيرها.
فالتمويل يمكن أن يستبدل التعويضات عن الخسائر لتمكين المزارعين من الاستمرار في المواسم القادمة حتى لو خسروا مواسمهم الحالية.
وهذه نقطة إضافية في سجلّ الآثار الكارثية لعدم حلّ أوضاع القطاع المصرفي في لبنان حتى الآن.