كعادتهم لبى أبناء المناطق الشمالية نداء الواجب الوطني والإنساني والأخلاقي تجاه إخوانهم من أبناء الضاحية الجنوبية وأبناء البقاع والجنوب، هؤلاء الضيوف الأعزاء الذين لجأوا إلى كافة بلدات الشمال على أثر العدوان الصهيوني الغاشم الذي استهدف مناطقهم منفذًا المجازر والجرائم الوحشية بحق البشر والحجر.
الصورة الحقيقية للشمال الأبي التي عبر عنها أبنائه باحتضانهم لأخوانهم من شعب المقاومة كان له وقعٌ خاص في هذه المعركة مع العدوّ الصهيوني الذي سعى جاهدًا وعلى مدى سنين طويلة للإيقاع بين بيئة المقاومة وجمهورها وبين أبناء المناطق الشمالية، مما جعل النصر على العدوّ نصرين، النصر الأول هو الذي حققه المقاومون على الجبهة، والنصر الثاني كان الاحتضان الكبير لبيئة المقاومة الذين لاقوا كلّ الترحيب وأروع أنواع المعاملة الطيبة خلال تواجدهم في مناطق طرابلس والمنية والضنية وعكار وصولًا إلى البترون والكورة.
الاحتضان والاستقبال الكبير لضيوف الشمال الذي تجلى بأبهى حلته من خلال الارتياح الذي عبر عنه كلّ الضيوف الذين دخلوا إلى الشمال وأقاموا فيه طيلة أيام الحرب، حيث كان استقبالهم من القلب إلى القلب من مدخل مدينة المنية من أمام النصب التذكاري لعميد الأسرى في السجون الصيونية يحيى سكاف حيث كان يتجمع الجنوبيون والبقاعيون تحت يافطات علقت على أوتستراد المنية ترحيبًا بهم بين أهلهم وإخوانهم، لينطلقوا بعدها إلى المنازل المأمنة لهم من قبل أبناء المنطقة.
المشهد الذي عاشته المناطق الشمالية كان له وقعه الخاص في هذه المعركة التي تقاسم فيها أبناء الشمال على مدى شهرين لكافة أنواع الاحتياجات التي توجب عليهم تأمينها لأخوانهم الضيوف وخصوصًا في آلاف المنازل التي فتحت أبوابها لهم وكأنهم متواجدون في بيوتهم، حيث تقاسم أصحاب المنازل والعوائل النازحة كلّ أشكال المعيشة من الأكل والشرب وصولًا إلى التدفئة في بعض البلدات الجبلية.
حيث كان من اللافت المبادرات الفردية العديدة التي ضمت شباب ونساء أبناء الشمال الذين عبروا عن وفائهم للأهالي النازحين بالوقوف إلى جانبهم عبر تقديم العون والمساعدة المتمثلة بإنشاء مطابخ تعد الوجبات الساخنة يوميًا والتي قامت بتوزيعها على المدارس والمنازل التي تضم عددًا كبيرًا من النازحين، حيث بدأت بالعمل منذ اليوم الأول للحرب حتّى آخر اللحظات.
و لم يتوقف الأمر عند هذه الأمور فقط، بل أبى بعض الشماليين إلا أن يواكبوا إخوانهم عند توقف الحرب، ويتوجهوا وإياهم إلى مناطقهم في الجنوب والبقاع والضاحية للإطمئنان عن منازلهم وأرزاقهم وهم رافعين رايات النصر على الطرقات، وليتشاركوا معهم الفرحة الكبيرة بالنصر الذي تحقق على العدوّ الصهيوني، بالإضافة إلى حواجز المحبّة والمحطات العفوية التي أقيمت من قبل أهالي الشمال على جوانب الطرقات لرش الورد والأرز على النازحين لدى عودتهم إلى مناطقهم.
في ظل هذا المشهد الوطني الذي عاشته المناطق الشمالية والذي أربك العدوّ وأعوانه، حيث كانت هذه اللحمة الوطنية كالسهم القاتل في صدر العدوّ وكلّ من سعى للفتنة في وطننا، إلا إن الرد الحاسم كان من الشعب الطيب الذي لم ولن يتخلى عن تاريخه الوطني الأصيل بوقوفهم الدائم مع المقاومة الباسلة ودعمهم اللا متناهي للقضية الفلسطينية التي تشكّل البوصلة الأساسية لهم على مر السنين.