فعل المقاومة، كأيّ سلوك بشري يهدف إما الى تحقيق منفعة أو دفع مضرّة. وعمل المقاومة هو سلوك أفراد وجماعات تهدف في المجالين السياسي والعسكري، الى تحقيق أهداف محددة (منفعة) أو دفع مخاطر (مضرّة) ناتجة ممّا يقوم به العدوّ.
وبالتالي فإن معيار الانتصار يصبح واضحاً في معرفة من وضع الأهداف، ومن منع تحقّقها. ويتعاظم الانتصار كلما تعاظمت المخاطر التي يتم دفعها، ما يسهل تقييم التضحيات التي تبذل في هذا الطريق.
عادة، تنتهي الحروب وفق سيناريوات منها، أن ينجح أحد الأطراف في حسمها عسكرياً، فيملي شروطه ومطالبه، وعندها لا يبقى مكان للسؤال عن هوية المنتصر والمهزوم.
ويمكن للحروب أن تستمر لفترة طويلة الى حد إعياء أحدهما أو كلاهما، وتنتهي عبر مفاوضات تتبلور نتائجها وفق مجموعة من العوامل، أوّلها وأهمها الميدان.
الميدان والصمود السياسي أفشلا كل محاولات العدوّ في تحقيق أهدافه من الحرب
الحرب التي شنها العدو على لبنان والمقاومة لم تنته بحسم عسكري، لكنها توقفت عبر مسار تفاوضي، وكان من الطبيعي أن يتضمن الاتفاق مطالب للطرفين على تفاوت.
وكان لهذه النتائج أن تصبح أرضية لمن يريد التصويب على المقاومة والتشكيك، من خلال التركيز على إنجازات العدوّ، والحديث عن حجم كبير من التضحيات التي قدمتها المقاومة وبيئتها.
مقابل يتجاهل متعمّد، لحقيقة أن المقاومة أحبطت عملياً خطة شطب من معادلة الميدان والسياسة بهدف إنتاج واقع (استراتيجي) جديد في لبنان وكمدخل لتغيير معادلات الشرق الأوسط.
وهو ما كان عنوان برنامج العدوّ كما نشر في وسائل إعلامه بتاريخ 14/10/2024، عبر الحديث عن نزع قدرات حزب الله، و”إنشاء أنظمة تساعد على ضمان عدم تسلح حزب الله مجدداً”.
ومراقبة دولية على الحدود السورية اللبنانية لمنع نقل الأسلحة الى حزب الله.
و”سيطرة استخباراتية وسيطرة على إطلاق النار في لبنان كله، وخاصة على طول الحدود السورية – اللبنانية وقرى جنوب لبنان” وشرط آخر يتعلق بإمكانية شنّ جيش العدوّ توغلات برية في الأراضي اللبنانية حتى بعد انتهاء الحرب!
مع الإشارة الى أن أهداف العدوّ تقاطعت مع ما حمله المبعوث الأميركي عاموس هوكشتين، في أول زيارة له بعد الحرب على لبنان، حيث طلب تنفيذ القرار 1559، وانتخاب رئيس جمهورية خلال الحرب، وإرسال قوات دولية لإنفاذ القرار الدولي والانتشار على المعابر والحدود البرية والبحرية والجوية…
يمكن التقدير أن المبادرة الى شن الحرب جاءت نتيجة عوامل تراكمية تسارعت في أعقاب طوفان الأقصى، وخصوصاً أن مشروع الهيمنة على لبنان يظلّ مطلباً مشتركاً لأميركا وإسرائيل، إضافة الى كونه يشكّل مدخلاً لتنفيذ خطة تغيير معادلة الشرق الأوسط، فضلاً عن موقعه المتوسطي.
عملياً، ليست هي المرة الأولى التي تسعى فيها تل أبيب وواشنطن إلى تحقيق هذه الأهداف، فقد سبق أن فعلت ذلك في عام 2006، وكانت من النتائج المرجوّة أميركياً وإسرائيلياً بعد احتلال العراق عام 2003 الذي هدف أيضاً الى إسقاط المنطقة العربية، بما فيها سوريا ولبنان.
لكن تحقيق هذه الأهداف كان ولا يزال مشروطاً بشطب المقاومة من معادلة الميدان والسياسة.
وهو أمر ارتفعت الرهانات على تحقيقه بعد سلسلة الضربات التي تعرّضت لها المقاومة من حادثة البيجر واللاسلكي في 17/9، وصولاً الى اغتيال الأمين العام لحزب الله الشهيد السيد حسن نصر الله في 27/9.
بموازاة ذلك، تعاظمت مفاعيل استراتيجية إيلام العدوّ التي انتهجتها المقاومة، وفق معادلة أنه كلما تراجعت رهانات العدوّ على إمكانية تحقيق أهدافه، تعاظم تأثير ضربات المقاومة على مؤسسات التقدير والقرار السياسي والأمني. في المقابل، كلما ارتفعت رهانات العدوّ على إمكانية تحقيق أهدافه، كان أكثر استعداداً لتحمّل الخسائر وخاصةً إذا ما كانت هذه الأهداف تتطلّبها مصالح الأمن القومي.
والذي حصل أن الصمود الأسطوري للمقاومين غيَّر تقديرات الجيش والقيادة السياسية ودفعهما الى تجنب خيار الاجتياح الواسع حتى نهر الليطاني، تفادياً للتورط في مستنقع استنزافي لا ينتهي. كما فشلت سياسة التنكيل التي اتّبعها ضد المناطق المدنية في تأليب بيئة المقاومة وإحداث شرخ داخلها.
بالموازاة، فشلت رهانات العدوّ على إحداث شرخ بين المقاومة السياسية التي مثّلها دولة الرئيس نبيه بري، بالتعاون مع الحكومة، وبين قيادة حزب الله. فاصطدم بثلاثية صمود تبدّدت معها رهاناته وفرضت عليه واقعاً دفعه في نهاية المطاف الى اتخاذ قرار وقف الحرب، على وقع استمرار استهداف الجبهة الداخلية، وصولاً الى تل أبيب.
في الخلاصة، حقق العدوّ إنجازات تكتيكية لم ينجح في ترجمتها على المستويَين السياسي والاستراتيجي، وبحسب تعبير مستشار الأمن القومي السابق لنتنياهو اللواء يعقوب عميدرور، الذي قال عن اتفاق وقف إطلاق النار إنه “الأفضل الذي يمكن تحقيقه في ظل الظروف الحالية”.
في المقابل، نجحت المقاومة في إحباط مشروع شطبها من الميدان وإخراجها من المعادلة السياسية اللبنانية بهدف إنتاج سلطة معادية للمقاومة. وبتعبير آخر، إذا لم يكن نجاح المقاومة في دفع الخطر الوجودي عنها وفي تكريس دورها كقوة دفاع فعّالة، وفي كونها مكوّناً رئيسياً في معادلة السياسة، انتصاراً… فما هو الانتصار؟