صورتان انتشرتا إلى جانب بعضهما في وسائل التواصل بعد أحداث أمستردام؛ صورة مقاومي القسّام وهم يجرّون جنود الاحتلال في السابع من أكتوبر، وصورة الشباب المؤيّد للحقّ الفلسطيني في أمستردام وهم يردّون همجية واعتداء “مشجّعي” نادي “مكابي تل أبيب” الإسرائيلي (ومن المنطقي أن نضع كلمة مشجّعي بين قوسين، لأنّ هوية مكوّن المجتمع الاستيطاني قائمة على جنود احتياط لم نعد نستطيع تحديد مكانهم بدقة، على مدرّجات ملاعب كرة القدم أم خلف المكاتب في شركات البرمجة العالمية العاملة في فلسطين المحتلة).
ثمّة ارتباط منطقي بين الصورتين يجعل نشرهما بهذه الطريقة ليس وجدانياً أو عاطفياً فقط، فالسلطات الأوروبية أرادت للعربي عقوداً من الزمن أن يكون “الضحية الطيبة”، والذي عندما يهجم الإسرائيلي في أوروبا ليمزّق العلم الفلسطيني، ويهتف لموت العربي، ويزدريه ويحاول إهانته، أن يكون الردّ على كلّ ذلك بالوقوف على أبواب الهيئات الدولية في الطابور الطويل للشكاوى التي تتعفّن.
وهذا تماماً ما أرادته السلطات الأوروبية نفسها للعربي نفسه، فيما يتعلّق بشأن الصورة الكبرى لمواجهة الاحتلال، فالردّ على قتل الفلسطينيين، وقضم الأراضي بالاستيطان والتجويع والحصار، يجب أن يكون بالاصطفاف في الطابور نفسه، وتحت العنوان نفسه “الضحية الطيبة”.
ولكن الفلسطيني قرّر في السابع من أكتوبر أن يعلن سأمه من الانتظار غير المجدي، وهذا تماماً ما قرّره الشباب المؤيّد للحقّ الفلسطيني في أمستردام بعد أكثر من عام على الحدث الأول.
في أمستردام، وقبلها وبعدها، يخرج شعار “معاداة السامية” من الأدراج المغبّرة، وفي كل مرة نجد أنفسنا نجهد في تفسير المفسّر، لنقول للمرة الألف “إننا نردّ اعتداء”، نستخرج الأدلّة من الحدث، نجري المقاربات، نستحضر الأمثلة المتكرّرة على الهمجية الإسرائيلية، ونذكّر بأن مشجّعاً في اليونان هتف “الحرية لفلسطين” خلال مباراة جمعت النادي الإسرائيلي نفسه مع أولمبياكوس اليوناني، انهال عليه “مشجّعو” النادي الإسرائيلي بالضرب، ولم نسمع إدانة واحدة تقول إن ما يجري معاداة للحقّ الفلسطيني والعربي!
ولكننا أيضاً في ميدان الكتابة والإعلام والثقافة، سأمنا كتابة العرائض التي لا تريد أن تقرأها السلطات الأوروبية والأميركية؛ ونشعر برغبة في تقليد المقاومين في السابع من أكتوبر والشباب في أمستردام، وكما جرّ الأول جندي الاحتلال من بزته العسكرية، وكما جرّ الثاني المعتدين الإسرائيليين من قمصانهم على وقع هتاف “فلسطين حرّة”، نشعر برغبة جامحة بجرّ مروّجي شعار “معاداة السامية” إلى ساحة التاريخ والفلسفة، ولسان حالنا يقول “كفى، هذا الشعار مهزلة تاريخية ساذجة”.
فلتقرأوا إذاً آرثر كوستلر (الذي كان متحّمساً للفكر الصهيوني في شبابه)، القبيلة الثالثة عشرة ويهود اليوم، وتعالوا نتبارز في ميدان الفكر والتاريخ، واكتبوا أنتم هذه المرة عرائض الدفاع بشأن انقطاع الصلة بين المستوطنين في فلسطين والسامية، وكونوا أنتم في موقع الدفاع بشأن فحوصات الـ DNA التي تثبت انقطاع هذه الصلة، وتعالوا حاججوا منير العكش في كتابه “اليهود والعنف”، وناقشوا السامية في أصول الرواية التاريخية. إننا ببساطة سأمنا حالة التبرير “لم يكن ذلك معاداة للسامية”، وسأمنا جدل السياسة بمشهد منكم ومشهد منّا، تعالوا إذن ننهي هذا الجدل في ميدان التاريخ والفكر، مرة واحدة وإلى الأبد!
ليلة أمستردام أثارت استدعاءات التاريخ المغلوطة والساذجة، فمن المسؤول الأوروبي الذي خرج علينا بأسطوانة “معاداة السامية”، إلى نتنياهو الذي خرج علينا بالكريستال ناخت (ليلة الزجاج المكسّر)؛ ويحاول تغطية الجرائم البشعة في فلسطين ولبنان باستدعاء صورة باهتة لفظها التاريخ، صورة اليهودي المحارَب بالدم في أوروبا!
في ليلة الكريستال ناخت، قالها بن غوريون، “أفضّل أن يموت نصف أطفال اليهود كي يذهب النصف الآخر إلى فلسطين، وليس إلى أي مكان آخر، يجب أن لا يذهبوا إلى “الملاذات الآمنة” في بريطانيا والولايات المتحدة، يجب أن يذهبوا إلى فلسطين”.
وفي سبيل ذلك تصاعدت عمليات خطف الأطفال من العائلات اليهودية في أوروبا، في هولندا وسويسرا تحديداً، لإجبار أهاليهم على اللحاق بهم إلى فلسطين. هذا هو التاريخ الذي يعرفه نتنياهو ويخفيه، وعلى أمستردام تحديداً أن تقرأه جيداً وتتصرّف بناء عليه.
إننا ببساطة نتحرّك في دوّامة احتيال الخطاب الإسرائيلي، الذي يحاول الجمع بين استعراض القوة لتحريض الهستيريا الجماعية في الجريمة، والمظلومية لإخفاء الجريمة، وفي دوامة الخطاب الأوروبي الذي يصرّ على الاستمرار في معالجة “المسألة اليهودية” (وهذا هو اسمها التاريخي في أوروبا)، بتجاهل اعتبارها مشكلة أوروبية خالصة، تمّ حلّها بتصديرها إلى فلسطين، في الفترة الزمنية نفسها، التي تمّ فيها حلّ مشكلة البطالة الهولندية لتعمل في جنوب أفريقيا وتسيطر عليها!
أمستردام ليست حدثاً عابراً، ولا مشكلة سياسية خاطفة؛ ما جرى في أمستردام هو تكثيف لصراع الروايات التاريخية، ومع أن الحقّ الفلسطيني ينتصر على مستوى الرأي العام الشعبي الأوروبي، الذي حرّك تظاهرات طالبيّة وغير طالبيّة، رفعت شعارات مناصرة بشقفها الأعلى “فلسطين من البحر إلى النهر”، إلا أننا بحاجة إلى تثبيت هذا الانتصار في ميدان التاريخ، في الزمن التاريخي، في الهيئات الدولية التي ألغت بداية التسعينيات قانون محاربة الصهيونية باعتبارها شكلاً من أشكال العنصرية، الذي كان قد أقرّ في الأمم المتحدة خلال السبعينيات.
إننا نحتاج تثبيت انتصار الرأي العام الأوروبي في ميدان التاريخ، ونحتاج تعريفاً دقيقاً للسامية قبل تمرير الشعار والقانون بهذا المستوى من الاستغفال؛ تفضّلوا إلى قاعة المناظرة، لأننا لم نعد “الضحية الطيبة” بعد اليوم!