مقالات

سقف سياسيّ إسرائيليّ مرتفع يقابله فشل بريّ متدحرج

يعكس ارتفاع سقف الاشتراطات الإسرائيلية في لبنان وغزة، مدى تفاقم شعور النشوة والغطرسة الناتجة عن الاغتيالات والضربات الأمنية مع القوة النارية التدميرية، في تضارب حادّ مع مستوى فشل الاجتياحات البرية من جباليا حتى عيتا الشعب، ما يبعث على الحيرة أن الواقع على الأرض هو دوماً وحده من يقرّر مدى تحقيق أهداف الحرب.

مرّت أسابيع على ذروة الضربات الأمنية الإسرائيلية في لبنان، فيما جاء استشهاد قائد الطوفان يحيى السنوار في اشتباك عرضيّ مسلّح لم يظهر فيه حتى الآن نجاح أمني مميّز.

زمن ميداني ثقيل يمرّ على قوى المقاومة من حزب الله حتى حماس، ولكنه ظل طوال الوقت زمن القابض على جمر تراب الأرض وهو يمزّق عشرات الدبابات والجرّافات، ويغرق مشافي الكيان بالقتلى والجرحى من كبار ضباطه وجنود وحدات نخبته من إيجوز حتى سيرت متكال.

يُغرق الإسرائيلي الفضاء السياسي بجوّ ملغّم بالزهو، وينقاد خلفه جهاز الإعلام العالمي بما فيه المحلي التابع كما الخاضع برعاية الأخطبوط الأميركي، بالترويج لإنجازات الحرب الإسرائيلية التي حسّنت موقع نتنياهو في استطلاعات الرأي الإسرائيلية، في تعامٍّ عن حقائق الميدان من جهة، كما أهداف الحرب عند طرفَي الصراع، ومتغيّرات الواقع الاستراتيجية.

يأتي المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين إلى بيروت وعلى ظهره حقيبة اشتراطات إسرائيلية تبعث على السخرية، يقابل الرئيس نبيه بري بصفته مفاوضاً لبنانياً جامعاً يحظى بثقة حزب الله، ليفرغ كامل حِمْله على طاولة الرئيس الذي ردّ عليه مشيراً أنّ العبرة بالخواتيم، وهي خواتيم يعيها خبراء السياسة فما يفرزه الميدان تتحمّل أعباءه مائدة التفاوض، وهي بعرف الشيخ نعيم قاسم تمتد من محور فيلادلفيا في رفح حتى مسجاف عام والعديسة، حيث تراوح العملية البرية الإسرائيلية منذ أسابيع.

ينتشي نتنياهو فرحاً بعد رحيل السنوار والسيطرة على جثمانه الطاهر، ليذهب بعيداً في مخيّلة هذا الإنجاز باتجاه إخضاع حماس لترفع الراية البيضاء وتطلق سراح الأسرى الإسرائيليين، مقابل أن ينجو مقاتلوها بأرواحهم ليكون مصيرهم المنافي، فيما أغرق وزير ماليته سموتريتش ليقولها صراحة إن الاستيطان اليهودي مصير غزة المقبل.

 هل هي حفلة جنون صاخبة امتدّت من “تل أبيب” حتى أصابت عدواها بايدن وترامب وهاريس وكلّ النخبة الحاكمة في واشنطن، كما غثاء التطبيع العربي الإسلامي وهو ينساح من قصر الزعيم والملك ومقار الأمن والمخابرات، ليلامس الحفلات الماجنة في الإسكندرية ودروس التكفير الدموي في نجد وإدلب، وهم يسكرون حتى الإغماء والانتشاء على وقع النزيف الفلسطيني اللبناني المتجدّد منذ السابع من أكتوبر 2023؟

أو لعلها عملية انقلاب جذرية في العرف السياسي والدبلوماسي، يقرّرها الفكر الغربي على وقع التوحّش الإسرائيلي، فالعبرة بالدم والدمع والدمار مع آخر متر تجتازه دبابة الميركافاة، تجاوزاً لنتائج النصر اللبناني في حرب 2006، كما كلّ الصمود الفلسطيني في كلّ الحروب على غزة والضفة؟

أفرغ الوحش الإسرائيلي كامل جعبته في خرج الضاحية وجباليا، وأطلق الشيطان الأميركي ليوسوس في صدور المرجفين على امتداد الطيف، في وقت تعجز فيه حرب الإشاعة وبعث الصدمة أن تأخذ طريقها من جليلوت شرق “تل أبيب” فالوحدة 8200 باتت تصبح وتمسي على صواريخ حزب الله، وهم لا يصدّقون أن باب لبنان يمكنه أن يوصد من دون ذراع السيد الأمين، فقد قتلوه وليس في لبنان ربان للسفينة يقبض على مقود الميدان، هكذا ذهبت أحلامهم لتنسج خيوط العنكبوت في معطى سياسي تتشكّل وفق تشابكه خريطة اليوم التالي للحرب.

تفاوض عبر القوة النارية أو تحت الضغط العسكري، استراتيجية الحرب الإسرائيلية المتكئة على جحيم الغرب الهائل بموازاة تكنولوجيا التجسس العملاقة، وما أنجزته من ضربات واغتيالات أمنية مذهلة، والناتج ثمرة سياسية ارتوت بماء الدم الفلسطيني واللبناني، وثمة طابور خامس يعزف على لحن الهزيمة وقد اعتاد على مشهدية العمل بالسخرة في حدائق البيت الأبيض، في تجاهل حدّ العمى عن حقائق ووقائع، ليس في سطوع ضوئها غبش ولا غموض، وأهمها:

– يقابل الاغتيالات والضربات الأمنية الإسرائيلية، قدرة لا نهاية لها عند المقاومة على احتواء آثار هذه الصدمات في تعزيز بنيتها التنظيمية وتجاوز نتائج التطورات مع تعديل تكتيكاتها وسياساتها الميدانية، خاصة أن المقاومة تقاتل بين حواضنها الشعبية، ويسند ظهرها محور إقليمي مقاوم، وفضاء عالمي شعبي موآزر.

– يقابل زحف الدبابة الإسرائيلية البري في عمق غزة، وتسلل قوات النخبة في أطراف قرى الحافة اللبنانية، كمائن متطورة مركّبة يشترك فيها عدة قطاعات في المقاومة من هندسة الكمين ووضع خطته إلى حملة الصواريخ المضادة للدروع وزراعة العبوات وحتى وحدات القصف بقذائف الهاون قصيرة المدى مع طاقم تصوير الكمين، ما يؤكد حقيقة المسيطر على الأرض، هل هو حامل الجنسية المزدوجة أو المرتزق قائد الدبابة الزاحف خلف جرّافة الـD9، أم ابن البلد وحادي الروح المتوهّج غضباً وقد امتلك ناصية العقل ومبضع الجرّاح، وهو يغرس أعماق الوطن بلظى الموت للغرباء وقد تجهّز لحفلة الاستشهاد في فناء بيته؟

– تجاوزت المقاومة قوة النار الإسرائيلية الهائلة والتكنولوجيا الغربية المعقّدة، بتكنولوجيا الطائرات المسيّرة التي وصلت حتى غرفة نوم نتنياهو في قيسارية، وهي إن لم تنجح في قتله في تلك العملية، فإنها أكدت القدرة العملية مع إرادة القرار على تنفيذ عمليات إعدام لكلّ المسؤولين عن حرب الإبادة في غزة ولبنان، ويبدو أن القضية تأتي زمنياً ضمن معادلات الميدان.

– تجاوزت المقاومة الغارات الإسرائيلية اليومية الهائلة بحقّ المدنيين كما مواقعها، بقصف كلّ التجمّعات الإسرائيلية العسكرية والأمنية بشكل متلاحق من أقصى الشمال حتى العمق في قلب الوسط، لتصبح حيفا مثل “كريات شمونة”، وتبقى “تل أبيب” تحت الاستهداف أو احتمال الاستهداف، في مكوث طويل لنحو مليوني إسرائيلي في الملاجئ، مع سقوط قتلى وجرحى بشكل يومي وفق ما بات يضطرّ فيه الإسرائيلي للاعتراف به مرغماً، وإن بشكل نسبيّ.

– رغم التفوّق الأمني الإسرائيلي برعاية أميركية أوروبية على مستوى التجسس، إلا أنّ موجة الاعتقالات الإسرائيلية الأخيرة لمستوطنين متهمين بالتجسس لصالح إيران، ونجاح بعضهم في تنفيذ 600 مهمة استخبارية لصالح إيران، كشفت عمّا يشير إلى تطوّر محور المقاومة على هذا الصعيد.

– الأهم من كل ما سبق؛ نزيف الميدان الإسرائيلي في اجتياح جباليا وقرى الحافة اللبنانية، كما مستوطنات الحافة حيث الحشود العسكرية الإسرائيلية، وهو نزيف يستهلك المزيد من الدبابات مع عشرات القتلى ومئات الإصابات، خاصة من الرتب العسكرية، وليس آخرها قائد اللواء 401 برتبة عقيد في غزة، ونائب قائد كتيبة برتبة رائد قبالة لبنان، وهو ما أدخل مشافي الشمال من صفد ونهاريا حتى حيفا في عجز عن استقبال المزيد، ليتمّ نقل الإصابات الأخيرة إلى مشافي الوسط في القدس و”تل أبيب”، حيث تجاوز مجموع إصابات الجنود التي تمّ الاعتراف بها منذ السبت مئتي إصابة في جبهة لبنان وحدها.

– الحاسم في الأمر أنّ أهداف الحرب الإسرائيلية الأربعة ضد غزة ولبنان ما زالت بعيدة المنال، فقد استشهد السنوار وما زال الأسرى في عهدته، وحماس ترمّم بنيتها القيادية والتنظيمية وفق كلّ تطوّر، مع استمرار حكمها لغزة من دون أيّ أفق لأيّ حكومة عميلة، وفي لبنان رحل سماحة السيد حسن نصر الله وفي وصيته الأخيرة ذلك التحدّي المزلزل أن الإسرائيليين النازحين لن يعودوا إلى مستوطناتهم بل سيتضاعف عددهم حتى وقف الحرب على غزة.

معطيات بالجملة تجعل الاشتراطات الإسرائيلية الأميركية الحالمة خارج السياق الواقعي، فالميزان العسكري وفق حقائق أهداف الحرب كما مستوى السيطرة الحقيقية على الأرض يميل لصالح المقاومة، فهناك مئة أسير في قبضة غزة بعد أكثر من سنة على تجريف رمالها بالدبابات والمقاومة تعصف الأرض عصفاً تحت جنازيرها، فيما يغرق حزب الله نصف “دولة” الكيان وزيادة بوجبات قصف تتضاعف كل يوم كمّاً ونوعاً، وقد انتهت الأسابيع الثلاثة التي تمّ تحديدها للعملية البرية وهي تراوح على أطراف قرى الحافة دون طائل، فعن أيّ سلاح يتحدّث هوكستاين ليتمّ نزعه، وعن أيّ وصاية في لبنان يحلم بها نتنياهو؟.

 إنها حقائق الميدان لن تؤدي في نتيجتها إلا إلى نزول إسرائيلي أميركي عن شجرة الغرور والتعالي، أو البديل إطالة أمد الحرب، وفي طول فصولها واتساع ميادينها ينكسر أولاً صاحب الجثة الأضخم والأكثر بطشاً في مواجهة استعصاء الأصلب والأذكى والأشدّ صبراً، والأهم معادلة الغريب الدخيل والمؤمن الأصيل، وهي عقيدة الميدان في مرابض السرايا والقسّام حتى وقع رجال الرضوان، مصداق لقوله تعالى “وَلَا تَهِنُواْ فِى ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا”.

المصدر: الميادين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى