مقالات

من الإنسان القديم الى الهنود الحمر.. تاريخ لبنان لم يتحرّر من احتلاله

عادةً ما تكتُب الدول أمجادها وتخلّدها في كتب التاريخ لتُدرّس للأجيال اللاحقة. يُقال إنّ “الأمة التي تحفظ تاريخها تحفظ ذاتها”، ويُقال “لو أردت فهم الحاضر فادرس الماضي”.

ولا شكّ أن كتابة التاريخ لا تقف عند حدًّ معيّن، فكل يوم يمُر من عمر الدول والشعوب يكتب تاريخًا جديدًا، إلّا في لبنان.

لا يزال التاريخ عالقًا عند جُملة أحداث تُدرّس للأجيال، وكأنّ الزمن توقّف منذ نحو سبعة عقود.

حتى عندما تغيّرت المناهج الدراسية لغالبية المواد التربوية وحُدّثت عام 1998 بقيت كتب التاريخ على قدمها ولم تُستبدل.

أمام هذا الواقع، تبدو مادة التاريخ في الكتب المدرسية لكثير من الطلاب بمثابة عقاب.

قد يدرسونها ويحصدون أعلى النتائج فيها ولكن بلا أية حماسة.

البعض يصفها بالمادة المُملة غير المشوّقة.

يقولون ما لنا ــ ونحن في القرن الحادي والعشرين ــ بدروس العصر الحجري والإنسان القديم والهنود والحمر؟ ما لنا بأحداث الدولة البيزنطية والعثمانية والنهضة الثقافية عند العرب واستعمار الأميركتين، وعصور “التنوير” في أوروبا والحربين العالميتين و…؟!

لا يُنكر هؤلاء أنّ معرفة الأحداث والاطلاع عليها تشكّل قاعدة لفهم ما يجري اليوم، وهذا الأمر مفيد، فالاطلاع على زمن الانتداب الفرنسي في لبنان وسوريا يكشف الكثير عن نزعة الاستعمار لدى الغرب.

ليس خطأ أن تمتلك الأجيال ثقافة حول ما حصل في بلدها والعالم، لكن المغالاة في عرض الوقائع وتكرارها في المناهج الدراسية على حساب محطات لبنانية “عظيمة” ففي ذلك قمّة “الانتقاص” من تاريخ هذا الوطن المشرّف. تحرير الجنوب اللبناني في 25 أيار عام 2000 واحد من المحطات الاستراتيجية في تاريخ لبنان والمنطقة بأكملها.

لكن للأسف، تفتقد كُتب التاريخ في المناهج الدراسية اللبنانية لهذا الحدث الكبير الذي كُتب بدماء الشهداء، فتلك المناسبة لو أنها حدثت في دولة أخرى لكُتبت بالذهب رُبما لا بالحبر.

لا شكّ أنّ المقاومة لا تحتاج الى من يروي روايتها فهي من صنع التاريخ، لكن ثمّة إشكالية كُبرى تطرح نفسها في ذكرى التحرير: ألم يحن الوقت بعد لأن تكون مناسبة 25 أيار محطّة أساسية في كتب التاريخ تستذكرها الأجيال القادمة؟.

أليست هذه المحطة أولوية على ما أسلفناه من عناوين “أكل الدهر عليها وشرب”؟.

مراد: الذكرى مقدّسة وتستحق أن تخلّد

مقاربة الإشكالية المذكورة مع رئيس لجنة التربية النيابيّة النائب حسن مراد تؤكّد أنّ ثمّة جهات سياسية في لبنان لا تريد تكريس هذه المناسبة في عقول وأذهان الأجيال.

برأي مراد، هذه الذكرى مقدّسة وتستحق أن تخلّد، ولكن للأسف ثمة رأيان في هذا البلد؛ رأي يشدّد على ضرورة تضمين كتب التاريخ هذه المحطة، ورأي ثان ــ للأسف ــ يُحارب هذه الفكرة لأنه لا يريد تكريسها في عقولنا وأذهان أولادنا لا بل يُريد أن يمحوها من التاريخ ظنًا منه أنه يتمكّن من إضاعة تعب ودماء الشهداء.

وفق مراد، هذا الصراع قديم مُستجد اليوم كي لا يُصاب الطرف الآخر بالهزيمة.

لا يُخفي مراد في حديثه لموقع “العهد” أنّ هذه القضية طُرحت منذ بداية تشكيل لجان التربية، وشدّدنا على ضرورة وضع مناهج جديدة لكتاب التاريخ، فارتفعت حينها الأصوات المعارضة داخل اللجنة.

وهنا يُشدّد رئيس لجنة التربية النيابية أننا لا زلنا نعمل بهدوء ورويّة على هذا الأمر، مع الإشارة الى أنّ دماء الشهداء والذكرى والاحتفالات بحد ذاتها تكتب التاريخ. الذكرى تُكتب بمفردها وتُكرّس بالاحتفالات التي تقيمها كل بيئة المقاومة.

برأي المتحدّث ستكرّس هذه الذكرى “أوتوماتيكيًا” في أذهان الأجيال وعقول “أولادنا وأطفالنا” الى أن نجد طريقة لترسيخها في كتب التاريخ وليس فقط التاريخ اللبناني لأنّ هذه المحطّة غيّرت التاريخ العربي بأكمله، وتشكّل محورًا مهمًا  يجب أن تتضمنه كتب التاريخ.

هكذا نعى السياسيون لجنة كتاب التاريخ

قبل أكثر من عقد، وبالتحديد عام 2010، أطلق وزير التربية آنذاك حسن منيمنة عمل لجنة كتاب التاريخ الموحّد ــ والتي ضمّت ممثلين عن كافة الأحزاب ــ بهدف إعادة تقديم كتاب التاريخ بصورة جامعة.

أستاذ منهجية البحث التاريخي في الجامعة اللبنانية وعضو لجنة إعداد كتاب التاريخ التي شُكّلت آنذاك الدكتور حسن جابر يروي لموقع “العهد” تفاصيل المفاوضات التي تلقّت ضربة سياسية ذهب فيها جهد أكثر من عام سُدى.

يلفت جابر الى أنّ اللجنة أجمعت عندما كانت موجودة وبتوقيع كامل أعضائها ــ الذين تراوحوا بين ثمانية وعشرة ــ على أن يتضمّن منهج كتب التاريخ درسًا من حصتين لتدريس تاريخ المقاومة، وتطوُّرها وصولًا حتى التحرير عام 2000.

هذا ما اتفق عليه أعضاء اللجنة بأكملهم ــ يقول جابر ــ الذي يلفت الى أنّنا دخلنا حتى في مضمون المادة التي ستُكتب في هذا الدرس والصُور التي سيتضمنها، وأبرز الشهداء.

كل هذه التفاصيل جرى تناولها وأُقرت ولم يكن هناك مشكلة ــ يضيف جابر ــ لكن للأسف دخل السياسيون على الخط، ومع “أنهم كانوا ممثلين في اللجنة” لكنهم اعترضوا على كتاب التاريخ بأكمله وتدخلوا لإيقاف هذا الأمر.

ولعلّ المفارقة الكبرى تكمن في أنّ كل جهة حزبية عيّنت ممثلًا لها، وجرى الاتفاق على منهاج كتب التاريخ بكافة المراحل الدراسية من الابتدائي الى المتوسط الى الثانوي، وعندما انتهينا من وضع التصميم العام لكتب التاريخ، وجرى الاتفاق على إدراج درس المقاومة وقّع كافة الأعضاء على المحضر، وفي مقدمتهم وزير التربية.

ما الذي حصل اذًا؟. يجيب جابر بالإشارة الى أن تصريحًا سياسيًا للنائب سامي الجميل كان كفيلًا بنسف جهود كل الاجتماعات الدورية الأسبوعية التي امتدت لأكثر من عام.

الجميل قال حينها إنّ هذا الكتاب مرفوض ولا يناسب كل المكونات السياسية مع العلم أنّ ممثله كان في اللجنة ووقّع على المحضر، ويفترض به (الجميل) أن يحترم توقيع من انتدبه على محضر الجلسة.

وهنا يشدّد جابر على أنّ ما حصل سبّب إهانة كبرى لأساتذة جامعيين بذلوا جهودًا كبيرة فتبخّرت فجأة وكأن شيئًا لم يكن. لماذا حصل ذلك؟ يشدّد جابر على أنه تبيّن أنّ نفس درس المقاومة لم يكن موافقًا عليه من أحد الأحزاب السياسية، ليظل كتاب التاريخ اليوم وبكافة مراحله الدراسية عالقًا عند بعض الدروس التي تغطّي حقبة ما قبل سبعة الى ثمانية عقود.

لا شكّ أنّ المقاومة التي روت الأرض بدماء شهدائها فتحررّت وانتصرت على الجيش “الذي لا يُقهر”، هي اليوم تروي روايتها دون منّة من أحد.

صحيح أنّ لها حقًّا علينا أن نحفظ محطاتها، لكن التاريخ الذي يكتبه المنتصرون ــ كما تعلمنا ــ كتبته المقاومة بأبجدية النصر التي حفرت عميقًا في أذهان وعقول كل الأجيال، على أمل أن يحظى كتاب التاريخ اللبناني بشرف المقاومة ويتحرّر من احتلاله.

فاطمة سلامة – موقع العهد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى