انتقل حزب الله والمقاومة الإسلامية في لبنان مؤخراً من حيز حرب الإسناد في المرحلة السابقة، والذي استمر زهاء عام من الزمن تقريباً، إلى حيز حرب الاستنزاف في المرحلة الحالية، وربما المراحل اللاحقة، والذي يبدو مفتوحاً على عدد من الاحتمالات.
فكيف كانت المواجهة مع “إسرائيل”، عسكرياً وأمنياً، في تلك المرحلة التي خلت؟ وكيف أصبحت المواجهة معها، عسكرياً وأمنياً، في هذه المرحلة التي بدأت وما بعدها مقارنة مع ما قبلها؟ كيف كان الإسناد؟
استمرت حرب الإسناد طوال الفترة الزمنية الممتدة من 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023 حتى 23 أيلول/سبتمبر 2024، لتندلع بعدها حرب الاستنزاف في الفترة الزمنية الممتدة من 23 أيلول/سبتمبر 2024 حتى الآن. واتخذ الإسناد أشكالاً تكتيكية، عملياتية واستراتيجية، وأنماطاً سلوكية ووظيفية، على النحو الذي يلي:
• تسديد الضربات العسكرية والأمنية المحددة من جانب المقاومة اللبنانية إلى الأهداف الموضعية الإسرائيلية.
• تسجيل الأهداف العسكرية والأمنية وإحراز الأهداف السياسية والاستراتيجية، بطريقة تسجيل النقاط، من جانب المقاومة اللبنانية في مرمى العدو الإسرائيلي.
• إشغال نسبة لا بأس بها من القوات المسلحة الإسرائيلية والقدرات العسكرية الإسرائيلية في الشمال، والتقويض والتقليص لإمكانات أو احتمالات نقلها وانتقالها إلى الجنوب.
• التخفيف من وطأة العدوان الإسرائيلي على غزة في الجبهة الجنوبية من جانب المقاومة اللبنانية في الجبهة الشمالية بطريقة مدروسة ومحسوبة؛
• تجسيد فرضية ونظرية وحدة الساحات وتثبيتها بالممارسة، لا الخطاب فحسب، ولاسيما على خط العلاقة العضوية بين الجبهة الشمالية والجبهة الجنوبية.
• تجسيد فكرة ومقولة التضامن، عربياً وإسلامياً، وتمثيلها في الواقع وفي الحقيقة في صورة مشهدية تاريخية، لا لبس فيها ولا غبار عليها.
• الموازنة بين التزام القضية الفلسطينية ومقتضيات المصلحة الوطنية اللبنانية والأمن القومي للدولة اللبنانية، والحسابات ذات الصلة بالتعقيدات والحساسيات الداخلية.
كيف يكون الاستنزاف؟ يقوم حزب الله والمقاومة الإسلامية في لبنان باستنزاف “إسرائيل” باحتراف وإتقان. والحزب ينشط مؤخراً وراهناً على خطين ميدانيين، هما متوازيان ومتكاملان، ومن شأنهما إيذاء الكيان الإسرائيلي وإيلامه، في أكثر من صعيد ومستوى..
• أولاً، العمليات العسكرية في الجبهة الأمامية وعلى امتداد الحدود اللبنانية – الفلسطينية المحتلة، بحيث تعمل المقاومة اللبنانية على تفكيك الأهداف والمقاصد من الهجوم البري لإفشاله – التوغل أو التسلل البري – بصرف النظر عن التوصيف الإسرائيلي المعلن بالعملية البرية المحدودة، أو التخطيط الإسرائيلي غير المعلن للعملية البرية اللامحدودة، بقصد الاجتياح، وربما الاحتلال.
• ثانياً، العمليات الأمنية داخل الكيان الإسرائيلي، أو بالأحرى في العمق الداخلي والعمق الإستراتيجي، بحيث تعمل المقاومة اللبنانية على ضرب أهداف عسكرية واستراتيجية، مع نقل مركز الثقل بمسرح العمليات من الشمال إلى الوسط، أي مثلث حيفا (العاصمة الاقتصادية)، “تل أبيب” (العاصمة السياسية) والقدس (العاصمة التاريخية)، وهو النواة الصلبة لـ”إسرائيل”، وضمنه “غوش دان”، أي “تل أبيب: الكبرى.
إلامَ يؤدي الاستنزاف؟ يمكن أن تؤدي حرب استنزاف العدو الإسرائيلي من جانب المقاومة اللبنانية إلى إحداث عدد من المفاعيل والتداعيات، المباشرة أكثر منها غير المباشرة، بمعنى الآثار السلبية والسيئة في الكيان الإسرائيلي.
وستفيد هذه المؤشرات أو الإرهاصات ذات الصلة، والتي يمكن رصدها وقياسها، في نجاح المقاومة أو عدم نجاحها في سيرورة الاستنزاف للعدو ومساره التدريجي، بل التصعيدي. فنحن نشهد الاتجاهات أو المسارات التي تتبع بالتدرج وبالتوازي.
• إنزال أكبر قدر من الخسائر وإلحاق أكبر قدر من الأضرار بالجيش الإسرائيلي وقدراته العسكرية، القتالية واللوجستية، والعمل على زيادتها وزيادة أعبائها على الجيش، الحكومة، الاقتصاد والمالية العامة للكيان الإسرائيلي.
• تكبيد الاقتصاد الإسرائيلي أيضاً الخسائر والأضرار، المباشرة وغير المباشرة، والعمل على مضاعفتها ومضاعفة أعبائها على الحكومة الإسرائيلية والرأي العام الإسرائيلي، من قبيل تراجع عائدات القطاعات الاقتصادية وهروب الاستثمارات والرساميل من داخل الكيان الإسرائيلي إلى خارجه.
• استهداف الجبهة الداخلية على وجه العموم، والجبهة المعنوية على وجه الخصوص، وبالتبعية زعزعة استقرار الحالة الأمنية أو الوضع الأمني، في إشارة إلى الأمن القومي الإسرائيلي في عمقه الداخلي، بل عمقه الاستراتيجي.
• استهداف السكان من جمهور المستوطنين الإسرائيليين، ولاسيما في الشمال، كما في الوسط، وربما في الجنوب، عبر الحرب النفسية والحرب الإعلامية، بمعنى تثبيط المعنويات وضرب الروح المعنوية والحالة النفسية، وإثارة وإشاعة الهلع والهستيريا بين الناس.
• ضرب البنية التحتية الإسرائيلية، والمقصود هنا البنية التحتية العسكرية أكثر منها البنية التحتية المدنية، عبر استهدافها المتكرر والمتواصل في الجبهة وداخل الكيان الإسرائيلي، بما فيها الثكن، المعسكرات، القواعد، المواقع، المنصات، المعدات والآليات.
إلامَ يقود الاستنزاف؟ يمكن أن تقود حرب الاستنزاف للعدو الإسرائيلي، من جانب المقاومة اللبنانية، إلى تحصيل عدد من المكاسب العسكرية والسياسية.
ويرتبط هذا الأمر بما سوف تؤول إليه جبهة الاستنزاف على المدى المتوسط بالحد الأدنى، وربما أيضاً على المدى البعيد، على اعتبار أن الحرب قد تكون طويلة.
وهو رهن بمدى قدرة المقاومة على الثبات في الميدان وفي الجبهة أولاً، وبمقدار قدرة الناس على الصمود ثانياً، ولاسيما مقدار قدرة جمهور المقاومة على التحمل، ومدى قدرة المقاومة على إيذاء العدو الإسرائيلي وإيلامه ثالثاً، كما أشرنا عدة مرات سابقاً. فقد يكون من الممكن إحراز ما يلي تباعاً.
• انخفاض سقف الشروط والإملاءات الإسرائيلية بالتدريج، أو بالأحرى تخفيضها، في ضوء المعطيات الميدانية المستجدة.
• انحسار الإجماع أو شبه الإجماع الإسرائيلي على خيار الحرب في لبنان وضد حزب الله شيئاً فشيئاً، وانفراط عقده بحسب المستجدات الميدانية.
• التوصل إلى وقف إطلاق النار ووقف العدوان، وبالتالي إنهاء حالة الحرب بين “إسرائيل” ولبنان، وإن كان لا يزال هذا المسار صعباً وبعيد المنال حتى تاريخه.
استطاع حزب الله والمقاومة الإسلامية في لبنان، في الجبهة الشمالية، طوال فترة حرب الإسناد للمقاومة الفلسطينية في الجبهة الجنوبية، تسديد الضربات وتسجيل الأهداف في مرمى العدو الإسرائيلي.
ويخوض حزب الله والمقاومة الإسلامية في لبنان راهناً حرب الاستنزاف للعدو الإسرائيلي في الجبهة – في ميدان المعركة وساحة القتال – وفي العمق الداخلي للكيان؛ وهو الأمر الذي يجب رصده، بقصد البناء والرهان عليه لدى تحديد الوضعية وتقدير الموقف لاستشراف المستقبل، غبر التحليل، سياسياً واستراتيجياً.