مقالات

“سمح بالنشر”.. مقص الرقيب العسكري “الاسرائيلي” يزداد حدة

يقود جيش العدو حربه الإعلامية منذ عام على قاعدة أن كل مجريات المعارك في غزة ولبنان Top Secret، باستثناء ما “سمح بالنشر” منه بالاستناد إلى دمغة مقص الرقيب العسكري الذي يفصّل ما هو المسموح وما هو الممنوع تداوله إعلاميًا من باب الأمن القومي، ومنع تنغيص الجبهة الداخلية لديه، وتفادي خسارة الحرب النفسية، أو عدم السماح بدحض وتفنيد سرديات فصائل المقاومة الإعلامية. 

إزاء ذلك؛ تجلس شعارات الديمقراطية الحرية الإعلامية المدعاة في الزواية في أثناء الحروب، وتحل مكانها العسكرة المتجذرة في عروق الكيان المحتل، جيشًا ومستوطنين، وحتى وسائل إعلام وصحافيين. ويمتهن الرقيب “قصقصة الخبريات” وتركيب “بازل” روايات التضليل بشأن الخسائر التي تطال الأهداف العسكرية، وبث ما يخدم العدو في حربه النفسية لتيئيس المقاومة وبيئتها، فيبرز الإعلام الموجّه والمقيّد بالرقابة العسكرية كسلاح فعّال في المعركة لا يقل خطورة عن الدبابات والطائرات، وتصبح الصورة والسردية فعالة في معركة مخاطبة الجمهور والرأي العام وإقناعه.

المصفاة الإعلامية في الرقابة العسكرية “الاسرائيلية” لغربلة المسموح نشره ليست جديدة، وتعود إلى ما قبل تأسيس الكيان. وقد ورثها عن مؤسسيه البريطانيين؛ لكنها لم تكن صارمة طوال ٧٥ سنة مرت كما نراه منذ الطوفان.

قد يكون التشدد الحالي ناجمًا عن جملة عوامل فرضتها الأسباب الآتية:

أولاً: حرب تموز في العام 2006، وما تلتها من حروب لاحقة، وخسارة العدو آنذاك حربه النفسية، سواء لجهة اهتزاز جبهته الداخلية أم ظهوره بمظهر المرتبك والمتناقض في أكتر من محطة بدا فيها الجيش في مكان والطبقة السياسية في مكان آخر. وهنا يبدو أن العدو درس تلك الحروب وأفاد منها وأخذ العبر للبناء عليها.

ثانيًا: الواقع الافتراضي وتحول كل من يحمل هاتفًا إلى وسيلة إعلامية بأمكانها التصوير والنشر. وهذا من شأنه إذا لم يضبط تشكيل خاصرة رخوة للكيان بالنظر إلى ما قد يتركه من آثار وتداعيات على جبهته الداخلية.

ثالثًا: اقتناع قادة العدو بأنهم يخوضون معركة بقاء ووجود، وهي لا تقل أهمية؛ بل قد تفوق معركة الوجود الكيان في العام ١٩٤٨.

رابعًا: اهتزاز صورة الكيان أمام الرأي العام العالمي وظهوره على حقيقته الإرهابية الإجرامية الهمجية المتوحشة. ما دفعه للتضييق على الحريات الإعلامية ليس فيما يخصّ وسائل إعلامه، بل على القنوات الفضائية العربية التي تنقل صورة وحقيقة ما يرتكبه جيش العدو منذ سنة من مجازر وجرائم حرب وإبادة إنسانية في قطاع غزة ولبنان.

أوجه الرقابة العسكرية المتشددة على وسائل الإعلام، والتي يفرضها مقص الرقيب العسكري “لإاسرائيلي”، منعت نشر 613 مادة إعلامية خلال العام 2023. وقد تنوعت تلك الأوجه لكن يمكن لمن يتابع ويدقق ملاحظة صورها :

•    خسائر العدو: إخفاء حجم خسائر جيش الاحتلال بعدم الاعتراف بالأعداد الفعلية لقتلاه، فيدفنون من دون مراسم ومن دون 21 طلقة تكريمية ومن دون أي قيمة حتى أضحوا يلقون في مقابر أرقام جماعية.. وكل ذلك حتى لا يهتز جيش العدو إذا ما ظهرت الأرقام الحقيقية لخسائره ما قد يتسبب بانهيار الجيش الذي يعاني أصلًا تسربًا وهروبًا ورفضًا للخدمة وعصيان الأوامر ونقصًا عدديًا.

أما حين يعترف بالقتلى، فيكون إما لتسويغ عمل عدواني كبير وإما لاستيعاب ردّ من المقاومة على عدوان غادر.. وإما لتغذية أهداف فتنوية.. وهذا ما شهدناه في إعلانه عدة مرات عن مقتل جنود من العرب والبدو الذي يبدو أنه لا يصنفهم جنودًا من الفئة الأولى.. أما من هم من خارج ذلك من الصهاينة؛ فهم لا يموتون إلى حد يصل فيه كذب العدو للحديث عن 90 أو 100 جندي جريح، ولا يعترف بقتيل واحد.. فعلى أي عقول تنطلي هكذا أخبار مفبركة؟…

أما عن الجرحى والمصابين فحدث ولا حرج.. إذا أصيب ألف فلا يعترف إلا بخمسة، أما الآخرون يوزّعهم بين حوادث سير ومن وقع عن السطح ومن صعقته الكهرباء أو وقع عن السكوتر أو حالات تسمم غذائي.. ويبتكر لهم تخريجات وإخراجات ما أنزل الله بها من سلطان لتحييد إصاباته وقتلاه عن ميدان المعركة كي لا يسجل نصرًا للمقاومة عليه من جهة، ولا يهتز جيشه من جهة ثانية، ولا يزلزل جبهته الداخلية من جهة ثالثة، فتشكّل عاملًا ضاغطًا عليه لإنهاء الحرب.

في حرب العدو الإعلامية؛ ما سرى من تقطير إعلامي في ما يخص خسائر جيشه، طال أيضًا المستوطنين والمستوطنات.. هذا ما برز في بداية الحرب من خلال حملات دعائية عبر وسائل إعلام أجنبية حاولت تظهير حزب الله بصورة المعتدي على مستوطني الشمال لتهجيرهم.. الصورة بالطبع مجتزأة ومنقوصة هنا؛ فوسائل الإعلام الغربية المنحازة لم تقدم في المقابل الصورة الكاملة لما يجري على الجهة اللبنانية المقابلة أيضًا من نزوح تسبب به القصف وغارات الطيران المعادية.

أبعد من ذلك؛ حتى حينما نظّم العدو جولات إعلامية على مستوطنات الشمال؛ فقد حصرها بأماكن يحددها لهم كي يوصل للعالم فقط الصورة التي يريد فيأخذهم إلى منازل ومزارع استهدفتها المقاومة لتواجد جنوده فيها بعد أن يكون قد أزال آثار وجودهم ثم يحاول تصويرها بأنها استهداف منازل مدنية لاستعطاف الرأي العام ومحاولة تصوير حزب الله بأنه “إرهابي” والتمهيد للإقدام على الفتك والإجرام بشكل أوسع.

مؤخرًا؛ أجرى العدو جولة لوسائل إعلام ووكالات أنباء عالمية لكن لم تكن هذه المرة في المستوطنات الشمالية، بل شملت بلدتين أو ثلاث حدوديتين من جنوب لبنان لا تبعدان مئات الأمتار عن الشريط الحدودي.

وذلك في محاولة منه لإيصال صورة للعالم بأن هذه القرى التي يدمرها فيها أنفاق وأسلحة لحزب الله بالطبع محاولة اللعب إعلاميًا على وتيرة شرعنة العدوان وإظهار كيانه بمظهر الممارس لحق “الدفاع عن نفسه” باختراق سيادة الأراضي اللبنانية لإزالة التهديدات.

وإذا كان مفهومًا أن العدو يقوم بآلته الوحشية باعتداء واضح على جنوب لبنان؛ بل لبنان بأكمله؛ فالسؤال: ما الذي يدفع قنوات عالمية مشهورة لتكون شريكة له بهذا العدوان من خلال آلتها الإعلامية، وما الذي يجعلها رصاصة  في سلاح العدو الموجّه إلى صدور اللبنانيين؟..

وإذا كان غير مستغرب حجم الانحياز الإعلامي الغربي لصالح العدو؛ فالأنكى والأشد غرابة هو الإعلام المحلي والعربي المناهض، والذي يتبنى سرديات العدو الإعلامية ورواياته العسكرية، ويطبّل ويزمّر لها حتى يتحول جزء من منظومة إعلامية تشن حربًا نفسية توهينية على المقاومة وجمهورها..

هذا ما شهدناه من أدائهم الإعلامي عقب معظم الاغتيالات والمجازر التي ارتكبها جيش العدو في غزة ولبنان.. حتى بدا وكأن مهمتهم تسويغ ارتكاباته بحرف الاهتمام عن حجم المجازر واستهداف المدنيين والتلهي بالحديث عن استهداف المسؤول الفلاني أو العلاني ولكأنّ وجوده يسوغ أو يشرع للعدو حرمان العشرات من حقهم بالحياة الذي تحصنه وتصونه اتفاقيات جنيف الدولية لحماية المدنيين.

لا تقتصر الرقابة العسكرية على الخسائر البشرية والمادية؛ بل تطال أيضًا بشكل رئيس المواقع العسكرية المستهدفة، فيقص الرقيب العسكري في جيش العدو صورًا وفيديوهات لتلك المواقع، ويمنع تسريب ما يظهر إصابتها أو حجم خسائره فيها، والشاهد على ذلك اعتقال الصجافي الأميركي جيريمي لوفريدو بسبب نشره تقريرًا يظهر آثار الهجمات الإيرانية على أهداف عسكرية واستتبخاراتية مطلع الشهر الحالي.

يسعى العدو دومًا للخروج بصورة انتصار إعلامي وهمي عبر الدخول إلى بعض النقاط المتاخمة للحدود ورفع العلم “الإسرائيلي” كما حصل في حديقة مارون وفي مبنى بلدية راميا للإيحاء بتحقيق تقدم بري على الأراضي اللبنانية، وذلك بعد سلسلة الإخفاقات والخسائر الكبيرة التي تكبدها العدو في محاور التقدم.

هذا المشهد “الهوليودي” يعيدنا بالذاكرة إلى حرب تموز حين سعى جيش العدو للوصول إلى ملعب بنت جبيل، لرفع العلم “الإسرائيلي” في المكان الذي أطلق فيه الشهيد القائد الأمين العام السيد حسن نصر الله عبارة “أوهن من بيت العنكبوت”، وحينما عجز وتكبد خسائر فادحة طلب من جنوده وضع العلم على أقرب مبنى وتصويره، للإيحاء بأنه وصل إلى المدينة.

اليوم، يعاود جيش العدو الكرة، محاولًا رفع معنويات جنوده المنهارة والكذب على مستوطنيه بأنه يحقق إنجازات على الأرض لتغطية خسائره وشن حرب نفسية على بيئة المقاومة عبر الإيحاء بأنه يحتل القرى الأمامية.. علمًا أن قياس الإنجاز العسكري هنا لا يقاس بدخول عشرات الأمتار هنا أو هناك؛ إنما بتحقيق الهدف المعلن. ومن الواضح أن الغاية من العملية البرية هي الوصول إلى نهر الليطاني وتحويله إلى منطقة حزام أمني وهو ما يستحيل على العدو تحقيقه في ظل استبسال المقاومين وتصديهم البطولي للعدوان.

أما على فرض تحققه؛ فهناك مسألتان في غاية الأهمية: الأولى إلى اأ مدى يستطيع جيش العدو البقاء وقواته ستكون معرضة لنيران وهو غير قادر على التثبيت وعلى تأمين حمايتها كونها ستكون مكشوفة أمام المقاومة ما سيعرضها لاستنزاف دائم.

والنقطة الثانية إذا كانت غاية وصوله إلى الليطاني حماية المستوطنات وإرجاع المستوطنين إلى الشمال فهذا الهدف لن يتحقق أيضًا في ظل قدرات وترسانة المقاومة الصاروخية، والتي لم يعد الكاتيوشيا ركيزتها، وصار هناك مسيّرات وصواريخ نوعية تغطي كامل فلسطين المحتلة، وتصل إلى مئات الكيلومترات.

المصدر: العهد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى