أخبار لبنان

مسؤولية الدولة من زمن الإمام “الصدر” إلى عملية “يوم الأربعين”

أخفق اللبنانيّون على الدوام في استيلاد إجماع وطنيّ وقوميّ نهائيّ حول البلد وهويّته وموقعه وأدواره، متوارثين مخلّفات الماضي، فتتعثّر مكوّنات اجتماعهم السياسيّ على اختلاف تشكّلاتها في السلطة أو الاجتماع من طوائف وعائلات وأحزاب وهيئات مجتمع مدنيّ وأهلي ونخب في تحديد هويّة الدولة اللبنانية وتلمّس مصادر قوّتها.

ثمّة معضلة رئيسة عند مواجهة المخاطر التي تتهدّد السيادة اللبنانيّة ومواطنيها من قبل عدو خارجيّ.. فلا يتورّع المتواطئون عن المحاضرة في عفاف الوطنيّة؛ بما أنّ مفهوم الدولة اللبنانيّة غير ناجز إلّا بنحو اعتباطي يتأبّطه المتخاذلون عن نصرة الوطن وقضاياه عندما تفرض المسؤوليّة وقوفهم بوجه الاحتلال أو العدوان، ويهجرونه بنحو تام عند تعميق البحث حول الأمن القوميّ واستراتيجيّات الحماية والردع والتحرير.

مفاعيل الهيمنة وسذاجة الشعبويّة

تخوض الدولة اللبنانيّة تعقيداتها انطلاقًا من ضريبة التكوين الناشئة عن عمليّة قيصريّة عالميّة وإقليميّة، حيث أفرزت موازين القوى تفاعلاتها تحت رحى تقلّبات الأحداث، لكن إرادة الاستكبار العالميّ آنذاك كانت أقوى، بمقتضى نتائج الحربين العالميّتين الأولى والثانيّة، في اصطناع الحدود وتقاسم النفوذ والمصالح على حساب إرادة أهل الأرض، فنشأ الكيان الصهيونيّ بوصفه الغدّة الخبيثة لاستبداد الغرب في الشرق مجهّزًا بأغراضه وحبل إمداده العالميّ وأدواته التوسّعيّة كجزء من الماهية والموقع والدور.

هذه النبذة ضروريّة بنيويًّا لإدراك أنّ كلّ تبعات الأحداث التالية إنّما هذه هي حبكة فهمها، كـ”واقعة مولّدة”، تختصر هيمنة الاستكبار بوصف الكيان “الإسرائيليّ” أحد أهم صادراته، ولكونه محطّة من محطّات استتباب الهيمنة ضمن نسق الصراع والاستحواذ، وبموجب سيرته حيث وجوده احتلال وبقاؤه عدوان وممارساته معارك وحروب وتهجير وإبادة وفوضى واعتقال، في ظلّ نهمه للتوسّع وعدم انضباطه بحدود معيّنة دستوريًّا وعملانيًّا.

هكذا تصبح عملية “طوفان الأقصى” وكل ما سبقها من عمليّات فدائيّة ومعارك مفتوحة نتيجة لا سبب، وتغدو عمليّات جبهات الإسناد نتيجة لا سبب، ومن نافل القول إن سجل الاحتلال “الإسرائيليّ” من المجازر لم يبدأ مع غزّة وإن كانت ذروته معها، وما كان يحتاج إلى ذرائع فالطبيعة العدوانية والنزعة التوسّعيّة للكيان “الإسرائيليّ” المؤقّت لازمتان ضروريتان لفلسفة وجوده وبقائه.

كما أن هذه النبذة هي حاجة ماسّة لفهم أن الأزمات والانقسامات التي يكابدها اللبنانيّون محليًّا ليست بمنأى عنها تأسيسًا وسياقًا وتفعيلًا، وهي المستمرّة في “عيوب النظام السياسيّ” الذي يخضع بتطوّراته إلى موازين القوى واستبداداتها العالميّة والإقليميّة أيضًا.

ومع ذلك، فإن المقاومة للعدو الصهيونيّ حرصت على بناء الاطمئنان رغم الخذلان، وعلى تشييد أواصر اللحمة الاجتماعيّة رغم الطعن، وعلى مدّ اليد رغم التطاول عليها وعلى أهلها، وعلى تجاوز المحن رغم الغدر، وعلى تكريس نهائيّة الوطن والمواطنة.

إن نظرة ثاقبة بعيدة عن السطحيّة أو الشعبويّة تفضي إلى حقيقة راسخة واضحة مفادها، أن المقاومة لا تفتتح حربًا ولا تمارس إلا الدفاع، وإن تلبّست بالهجوم فهو هجوم دفاعي واستباقيّ بامتياز، إذ لا إستراتيجيّة هجوميّة عندها يشوبها الاعتداء، رغم أن سجلها حافل بحقوقها في الثأر العتيق المؤجّل للأرواح والممتلكات والوقت والاقتصاد والاستقرار..

إن وصم المقاومة بافتعال حرب، هو انعتاق من الوفاء وارتهان لإرادة الخارج المعتدي تحت ذرائع منطق الحرص، ووجهة النظر في الداخل للداخل هذه كوهم الحياد لا لون ولا رائحة ولا مذاق له إلا بما يثير شهيّة العدو المتربّص في الفتنة والفوضى وانفكاك عرى التفاهمات.

إن إثارة الصخب والضجيج هذا، هو محاولة بائسة لتقييد المقاومة وقدرتها على المناورة في الدفاع وتسديد على معادلة الردع وتيئيس من التحرير وسلب لشروط الأمان في الحماية، وإطلاق سخيّ وبالمجان ليد العدو ولفعل العدوان ومسّ بالوحدة والاستقرار.

لكن ذلك كلّه لن يظهر، ليس لأنه لم يقصد ووقع بما يحمل بذور الاضطراب، إنما لأن العقل المقاوم وانشراح صدره في الشجاعة والحكمة يجيز إهمال هكذا مقولات ساقطة ورخيصة في زمن الجريمة ضد الإنسانيّة وفي لحظات التهديد السافر من قبل العدو والعزف الجبان على أنغامه، وفي إطار تفعيل العدو لإستراتيجيّات أطماعه بمؤازرة دوليّة ماكرة وجائرة، وفي ظل التضحيّات الجسام مهما كان النقاش حولها في الجدوى والتداعيات.

إن المقاومة مارست واجبها في إطار استطلاعها بالنار لنيّات وإمكانيّات وإستراتيجيّات العدو، وخاضت إسنادها لذاتها بإسنادها مَن يقاتل عدوًّا مشتركًا على تخوم جغرافيّة الوطن، وما زالت تحمي أهلها بتسليط “هدهدها” وقبضاتها و”عمادها” على الوجود العسكريّ للعدو، وهي فعّلت جزءًا من قدراتها بعزّة وحكمة وشجاعة يفتقد الآخرون فهمها بما أنّ فاقد الشيء (أي حاصل العزّة والحكمة والشجاعة) لا يعطيه.

لكن علامات الموت السريري لمطلق أي دولة تبرز من خلال غيبوبتها عن السيادة وتنازلها عن كرامتها الوطنيّة مقابل عدوّها، ومن مؤشّراته ارتهان حكّامها أو بعضهم وسياساتها وعجلتها إلى تعليمات السفارات، والانكفاء عن القيام بأدوار الحماية والدفاع عن المواطنين تجاه العدو الخارجيّ المتفق -ظاهرًا- عليه وعلى عداوته.

نجاح المقاومة لا يعفي السلطة والقيادات من مسؤوليّاتهم

نجحت المقاومة وبيئتها الحاضنة في مواكبة مجريات الأمور بذكاء وطنيّ فذّ دون الانطواء على الشعار المخادع “لبنان أوّلًا”، بل اجترحت في الثامن من تشرين الأوّل 2023م ببصيرتها وبمبادرتها إلى القتال كلّ الأسباب الكافية والجهود الوافية لحماية لبنان من أي مباغتة أميركيّة-“إسرائيليّة”، دون تعطيل احتماليّات العدوان وواجب صدّه والجهوزيّة التامّة، إنما بالتدخّل المناسب والمتناسب للتعامل معه.

وقد توّجت عمليّة “يوم الأربعين” ونجاح سلاح المسيّرات الجويّة في بلوغ الهدف السريّ داخل ضاحية “تل أبيب” مرحلة جديدة في تاريخ الردع اللبنانيّ المقاوم.

تمكّنت قيادة المقاومة وضباطها وكوادرها ورجالها الماهرون من انتخاب الهدف الدقيق وإصابته باحترافيّة عاليّة في عمليّة أمنيّة عسكريّة مركّبة ومعقّدة، واستطاعت أن تحفر تاريخ 25 آب 2024م عميقًا في وجدان مجتمع المقاومة وقادة العدو، محرزة الآتي:

. حماية المواطنين المدنيّين اللبنانيّين، عبر صيانة معادلات الردع ودرء الحرب الموسّعة أو تأخيرها، وهذا ما يدعو الآخرين إلى تقدير هذا الفعل المقاوم المدروس بعناية.

2. صيانة المقاومة لقدراتها وخططها السريّة ولسلاحها الاستراتيجيّ، ملوّحة بدنو استخدامه في حال تدحرجت الأمور كجزء من الحماية عبر التحذير الردعي وكجزء من تهيئة الأرضيّة لذلك، وهذا ضبط في استعمال القوّة يتطلّب تقديره والتواضع أمامه أيضًا.

3. تعزيز الثقة بالقيادة ووعيها لمراحل ومستويات المواجهة ومتطلباتها تجاه الناس والعدو بالتلازم مع صدق الوعد والوعيد وانتهاج الحرب النفسيّة الصادقة، وهذا دليل يتجدّد باستمرار ومع مختلف الاستحقاقات.

4. فتح أفق في مسؤوليّات ما بعد عملية يوم الأربعين، على مستويات (المقاومة والسلطة والمؤسّسات والأجهزة العسكريّة والأمنية والاجتماع اللبنانيّ) وهي مسؤوليّات تتطلّب الاستعداد للأسوأ.

وفي هذا الإطار، وفي ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر، من المناسب استعادة دعوته الجازمة: “على لبنان أن يكون لديه مجتمع حرب لمواجهة المعركة المصيرية”، وأن يتحمّل كل مسؤول “مسؤوليّته التاريخيّة التي تفرضها معركة المصير، فالتجاهل احتقار للوطن ولا مبالاة به”. فالمسؤولية بحسب الإمام الصدر “تعادل الوعي”. من هنا فإن عدم تحسّس بعض اللبنانيين لواقع مأساة الجنوب إنّما يعود إلى نقص في التوجيه من قبل السلطة لإبعاد الأخطار المحدقة به والمصير الذي ينتظره.

خلاصة الأمر، إن مسار الأحداث وديناميّات الساحات تفضي إلى حمل المسؤوليّة ابتداءً بالموقف مرورًا بالخطاب الوطنيّ وليس انتهاء بمؤازرة الفعل المقاوم والانخراط به، بل مواكبة كلّ التطوّرات والتداعيات والنتائج بجزئيّاتها وكليّاتها، فصيانة الأوطان بصيانة أمنها القوميّ، وإسناد غزّة ورفح والضفّة والقدس هو إسناد لبيروت ولهويّة لبنان المقاوم.

العهد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى