قضت على اقتصاد لبنان في السنوات الأربع الماضية، ضربات ثلاث، جعلت من الصعب على القطاعين العام والخاص الخروج منها بصيغة “صاغ سليم”.
فبين انفجار مرفأ بيروت وأزمة المصارف وجائحة كورونا، شُلّت الحركة تماماً وباتت الخسارة تتلو الخسارة في ظل ارتفاع الدولار الأميركي على حساب الليرة اللبنانية وما خلّفه ذلك من تهاوٍ في القدرة الشرائية.
إلا أن القطاع الخاص تمكّن من التقاط انفاسه ولو بعض الشيء، فيما بقي القطاع العام يترنّح مع موظفيه تحت وطأة الفساد والهدر فهل يمكن إصلاح هذا القطاع المهشّم أصلاً والنهوض به؟
مطالب محقة ولكن…
تحدّي معالجة ملف الرواتب والاجور وزيادة الانتاجية للعاملين والمتقاعدين في القطاع العام، أقرّ به علناً رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عقب إقرار الموازنة، إذ قال إن “مطالب الموظفين والمتقاعدين هي حتماً محقة، ولكن الواقع امامنا يقتضي البحث الدقيق”.
وأشار إلى أنه في العام 2019 كانت الموازنة العامة تبلغ 17 مليار دولار ثلثها رواتب واجور للقطاع العام، اما هذا العام فتبلغ الموازنة 3 مليارات و200 مليون دولار ثلثها رواتب.
واحتجاجاً على عدم إعادة القيمة الفعلية للرواتب والأجور والمعاشات التقاعدية وتعويضات الصرف والمستحقات ذات الصلة، تشهد الإدارات العامة شللاً تاماً في عملها إثر سلسلة الإضرابات عن العمل التي تعلنها بين الفترة والأخرى الهيئة الإدارية لموظفي الإدارة العامة، وآخرها تمديد الإضراب لغاية يوم الجمعة الواقع فيه 23/02/2024 .
الأمور نحو الأسوأ
هذا التمديد للإضراب لن يكون الأخير، على حدّ تأكيد رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة نوال نصر، مشيرة إلى أن الأمور تتجه على ما يبدو نحو الأسوأ.
وقالت نصر لـ”لبنان 24″: “في حين أن الدولة تؤكد عدم قدرتها للدفع للموظفين، إلا أنها تغدق مبالغ طائلة على إدارات تصنفها مهمة كوزارة المالية التي بلغ ما رصد لها في قوانين ومراسيم وقرارات، عشرات الأضعاف مما يخصص لباقي الإدارات، إلا أننا من يدفع الرسوم والضرائب لتغذية الإدارات الأخرى”.
وشددت على أنه في البداية “كنا نشدد على ضرورة محاسبة الهدر والفساد لاسترداد الأموال المنهوبة، بينما اليوم نقول لهم الأموال موجودة لأننا نحن من يدفع الرسوم والغلاء المعيشي”.
وأشارت نصر إلى أنه “مع كل الحلول الترقيعية والمشروطة والتي لم تدمج بصلب الرواتب، ما زال ما يتقاضاه 80% من موظفي الإدارة العامة يتراوح ما بين 143 و153 دولار، وكثيرون لا يصل مجموع ما يتقاضونه إلى 70 دولار، أما اساس الراتب لدى كل هؤلاء فيتراوح ما بين 11 و22 دولار ينهي كثيرون خدماتهم بتعويضات صرف تساوي العدم”.
التحركات مستمرة
ومن حيث المطالب، عددتها نصر بشكل واضح “وعلى رأسها تصحيح الرواتب والأجور وإعادتها إلى قيمتها وقدرتها الشرائية ولو بالتقسيط، على ألا يقل القسط الأول عن الحد الأدنى الذي يؤمن الكفاية للفئات الدنيا، وأن اي زيادة موقتة يجب ان تراعي هذا الحد الأدنى”، على حد قولها.
لا يقتصر الأمر على الرواتب، بل تشمل المطالب أيضاً الطبابة، الإستشفاء، بدل النقل والأقساط التعليمية التي بات موظف الإدارة العامة غير قادر على تسديدها حتى في المؤسسات التعليمية الرسمية.
وأكدت نصر أن حالة الغضب التي يعيشها الموظفون كبيرة في ظل عدم الإستماع إلى مطالبهم، متمنية ألا تصل الأمور إلى حدّ العنف، كما أكدت أن “الرابطة ستستمر بالتحرك إلى حين تحقيق المطالب ولكن لا يمكن ضبط الإيقاع”.
هل يمكن تحقيق المطالب؟
مدير المعهد اللبناني لدراسات السوق والخبير الاقتصادي د. باتريك مارديني أكّد أنه لا يمكن تحقيق مطالب موظفي القطاع العام على أرض الواقع، لأنها لا تأخذ بعين الإعتبار الوضع في لبنان.
وقال مارديني لـ”لبنان 24″ إن حجم الإقتصاد اللبناني تقلّص من حوالي 54 مليار دولار في مرحلة ما قبل الأزمة إلى أقلّ من 20 مليار دولار اليوم، وبالتالي ما يمكن جبايته من 54 مليار دولار لا يمكن جبايته من 20 مليار دولار.
ولفت إلى أنه يمكن تحقيق مطالب الموظفين في حال إعادة هيكلة القطاع العام من خلال السماح لنصف عدد موظفيه الحالي بالاستقالة من وظائفهم، ما يتيح إمكانية مضاعفة الرواتب، إلا أن المطالبة بمعالجة الرواتب والأجور غير واردة اليوم لأن الحكومة لا تملك ما يكفي من الأموال.
وفي هذا الإطار، اعتبر مارديني أن المشكلة الأساسية تكمن بالإنفاق العام الذي يفوق الإيرادات، ما أدى إلى وصول اللبنانيين إلى أزمتهم المالية الحالية.
وأضاف: “سبب المشكلة أنه لسنوات متتالية، كان لبنان يسجّل عجزاً في الموازنة العامة، وكان يتمّ تمويل هذا العجز من خلال الإستدانة من مصرف لبنان المركزي ما أدى إلى فجوة وصولاً إلى أزمة الودائع، ثم بدأنا بتمويل الإنفاق العام عن طريق طباعة الليرة وانهيارها”.
وبالحديث عن الإنفاق العام الذي يجب خفضه، شدد مارديني على أنه كما يوجد “أوادم” في الإدارات العامة، إلا أن الفاسدين أيضاً موجودون بعدد أكبر وتمّ توظيفهم عن طريق المحسوبيات والطائفية والـ”6 و6 مكرر” وغيرها من التجاوزات، وبالتالي هم غير منتجين في القطاع العام وكانوا يتقاضون رواتبهم من اموال المودعين وعن طريق انهيار الليرة”.
ما الحلّ؟
ولحلّ هذه المشكلة، كشف مارديني أنه يجب تنظيف القطاع العام عن طريق السماح للموظفين بالخروج طوعياً من وظائفهم، علماً أن عدداً كبيراً منهم يعمل بوظائف أخرى في القطاع الخاص لتأمين راتب آخر.
وتطرّق إلى الإصلاحات التي لا يتمّ تطبيقها في النظام الضريبي، قائلاً إن هذا الأمر مردّه إلى فساد بعض موظفي القطاع العام ليس فقط في الجمارك بل في دوائر أخرى أيضاً، الذين لا يتواجدون في وظائفهم لجباية الأموال، مذكراً بالتهرب الضريبي والجمركي والفلتان على خط التهريب.
وأكد أن المشكلة ليست في النظام الضريبي إنما بالموظفين، داعياً لإعادة هيكلة القطاع العام.
من هنا، جزم مارديني أن الطريقة الوحيدة لتحسين ظروف القطاعين العام والخاص أيضاً، هي إطلاق عجلة النمو الإقتصادي، لافتاً إلى أن زيادة اجور موظفي القطاع العام مصدرها أموال القطاع الخاص وهو حصان الإقتصاد لأن عليه أن ينتج الثروات والأموال التي يذهب جزء منها للقطاع العام.
ومن أجل إطلاق العجلة الإقتصادية، أشار مارديني إلى أنه يجب القيام بإصلاحات عدّة وعلى رأسها تفكيك احتكارات القطاع العام، على غرار الكهرباء والطيران والإتصالات والإنترنت، ما يؤدي إلى خفض اليد العاملة بالإضافة إلى إطلاق النمو في القطاع الخاص وإنتاج مداخيل من شأنها تحسين وضعية من تبقى في القطاع العام.