لم -ولن- تأتِ حرب مثل الحرب التي تشنها “إسرائيل” اليوم على قطاع غزة، وذلك لعدة اعتبارات، أبرزها ضحاياها الكثر من الأطفال، ليس من حيث عدد الوفيات، إنما تبعاً لمؤشرات أساسية أخرى تتصدرها نسبة الأطفال الذين يقبعون في دائرة الخطر المهدد لحياتهم.
هذه النسبة في قطاع غزة، وبخلاف جميع الحروب والنزاعات في العالم، تكاد تكون 100% تماماً، فجميع أطفال القطاع هم حالياً تحت خطر الموت أو الإصابة أو الجوع بلا أدنى استثناء، والبيانات الأممية تؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي يقتل كل ربع ساعة طفلاً فلسطينياً من بين كل 100 طفل يعيشون في القطاع منذ السابع من أكتوبر الماضي.
من المؤشرات الأخرى الهامة ما يتعلق بنسبة الأطفال من إجمالي أعداد الوفيات الناجمة عن الحرب، وهي في قطاع غزة نسبة كبيرة جداً تتجاوز 43%، فيما هي في باقي الحروب أقل من ذلك بكثير، الأمر الذي أسهم في تغيّر الموقف العالمي الشعبي من “إسرائيل” وسرديتها الكاذبة المخالفة للوقائع والأحداث، فضلاً عن الآثار الأخرى المتمثلة في النزوح المتكرر والجوع والأذى النفسي والإصابات وفقدان الأهل.
47% من سكان القطاع
ما يميز التركيبة السكانية لقطاع غزة هو أن الأطفال (17 عاماً وما دون) يشكلون ما نسبته نحو 47% من إجمالي عدد سكان القطاع بحسب بيانات جهاز الإحصاء الفلسطيني، التي تضيف أن عدد الأطفال في القطاع وصل في منتصف العام الماضي إلى نحو 1.046 مليون طفل، يشكل الذكور منهم نحو 51% والإناث نحو 48.9%.
وتظهر عملية قراءة تلك البيانات أن نحو 59.3% من الأطفال هم دون سن التاسعة، وترتفع النسبة لتصبح 85.8% فيما لو تمت إضافة فئة من هم بين سن التاسعة والرابعة عشرة.
اللافت في البيانات كذلك أن نسبة الأطفال المشتغلين (سواء بأجر أو بدون أجر) في القطاع لم تتجاوز عام 2022 نحو 1% رغم ظروف الحصار المفروض منذ العام 2007، فيما سجلت هذه النسبة في الضفة الغربية نحو 5%، كما أن نسبة الأطفال المشتغلين والملتحقين بالمدارس بلغت نحو 0.4% في القطاع في مقابل 2% في الضفة الغربية، وهو ما يعني افتراضياً ارتفاع نسبة الملتحقين بالتعليم، بدليل أن نسبة الأمية بين الأطفال ممن أعمارهم 15 عاماً وما دون لا تتجاوز 2.3% على مستوى الضفة الغربية وقطاع غزة معاً.
وليس هذا فحسب، بل إن 82% من أطفال القطاع ممن تتراوح أعمارهم بين 10-17 عاماً يستخدمون الإنترنت، و19% فقط من أطفال القطاع من الفئة العمرية نفسها يمتلكون هاتفاً نقالاً.
كل ذلك قد يجعل الأطفال ضحية أولى في أي حرب تكون مدافعها وصواريخها موجهة إلى الأحياء السكنية بمنازلها ومدارسها ومستشفياتها ودور عبادتها، لكن في حالة العدوان الإسرائيلي فإن الأمر ليس كذلك فقط، فالتصريحات العنصرية الصادرة عن المسؤولين الصهاينة تؤكد أن استهداف الأطفال بالقنابل والصواريخ عبارة عن عملية إبادة ممنهجة لهذه الفئة العمرية، وهدفها من ذلك إحداث تغيرات في التركيبة الديمغرافية والسكانية للقطاع، التي تعدّ، في رأي قادة الاحتلال، تركيبة مخيفة لمستقبل “إسرائيل”، وإلا ما سبب هذا الإصرار منذ نحو 120 يوماً على استهداف الأحياء السكنية رغم أن حصيلتها من الضحايا باتت معروفة ومتوقعة مسبقاً!
أرقام صادمة ومرعبة
صحيح أن أطفال غزة لم يكونوا قبل السابع من أكتوبر الماضي بمنأى عن رصاص الاحتلال وممارساته، وتقديرات منظمة “اليونيسف” كانت تشير قبل الحرب الحالية إلى وجود نحو 500 ألف طفل في القطاع يحتاجون إلى خدمات الصحة والدعم النفسي، كما أن عمليات التوثيق السنوية تظهر عدداً لا بأس به من الشهداء الأطفال سنوياً.
مثلاً، شهد العام 2021 ارتقاء نحو 61 طفلاً شهيداً في القطاع وحده برصاص الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن العدوان الحالي أضر كثيراً بأوضاع أطفال القطاع الذين باتوا جميعاً معرضين للقتل أو للإصابة والجوع والمرض والبرد، وباتوا بحاجة إلى الدعم النفسي.
ومع استمرار العدوان وتواتر تفاصيل المجازر المروعة المرتكبة يومياً، بدأ يتكشف للعالم أكثر فأكثر عمق المأساة التي يعيشها أطفال القطاع، وعلى لسان المسؤوليين الأمميين أنفسهم، الذين خرج بعضهم مؤخراً إلى الإعلام ليتحدثوا عن 1.1 مليون طفل مهددين بسوء التغذية والأمراض، وهم كذلك بحاجة إلى دعم نفسي، كما أن هناك ما يزيد على 17 ألف طفل انفصلوا عن أسرهم وأهلهم، ونحو 20 ألف طفل ولدوا في ظل ظروف صحية وإنسانية صعبة للغاية ومهددة لحياتهم وحياة أمهاتهم من جراء غياب أدنى متطلبات الرعاية الصحية والتغذية المناسبة، فضلاً عن آلاف الحالات التي تحتاج إلى رعاية صحية عالية المستوى لا تتوفر في مستشفيات القطاع المدمر.
وبالتالي، إن توقف العدوان لا يعني زوال الخطر عن أطفال القطاع بالنظر إلى حجم الاحتياجات الهائلة المطلوبة على مختلف الصعد والمستويات، والتي يبدو أنه لن يتوفر منها سوى القليل بفعل ضآلة التمويل الدولي الإغاثي وتعثّر عملية إعادة إعمار القطاع، كما هي حال الحروب السابقة التي تعرض لها. وبذلك، تكون الخلاصة أن العدوان الحالي سيترك “ندبة” عميقة على جسد طفولة القطاع لن تزول بسهولة.
كل هذه الأرقام الصادمة للرأي العام وغير المسبوقة في أي حرب لا تكاد تذكر في مقابل القصص الحزينة لأطفال القطاع، فكل طفل في القطاع له قصة محزنة، وهو ليس مجرد رقم يمكن أن يثار في اجتماع أو يرد ضمن تصريح إعلامي، فكيف إذا اجتمع هول الأرقام مع فجاعة القصص الإنسانية؟
لذلك، إن عجز المجتمع الدولي والدول العربية والإسلامية، وخصوصاً عن مساعدة أطفال غزة، سيظل وصمة عار على جبين هذه الدول والمنظمات ولعنة تلاحقها من جيل إلى جيل، وهو بالتأكيد ليس أقل من وصمة العار الإسرائيلية… فالقاتل والصامت عن القتل في كفة واحدة.