كتبت صحيفة “الأخبار”: وقت طويل سيمرّ حتى يتخلّص النقد في لبنان من عوارض رياض سلامة. وهي عوارض مرض عُضال له عمر يمتد إلى تاريخ قيام هذا النموذج من الاقتصاد، ولو أنه انكشف بعد تولّي رفيق الحريري الإدارة الفعلية للحكم في البلاد مطلع تسعينيات القرن الماضي.
سيرة رياض سلامة تحتاج إلى أكثر من خبير لكتابتها.
لكنّ عناوينها البارزة لا تتعلق بشخصه فقط، بل بالدور الذي لعبه منذ تولّيه منصبه قبل ثلاثين سنة. كان سلامة، باختصار، الذراع القوية لرفيق الحريري في إدارة السياسة النقدية.
والحريري الذي كان يمسك بواسطة فؤاد السنيورة بالسياسة المالية للبلاد، كان يتولّى هو صياغة التصور الاقتصادي الإجمالي، مستفيداً من كونه حجر الزاوية في تسوية اتفاق الطائف.
التسوية التي ألزمت كل الأطراف المحلية والخارجية بتفويضه إدارة هذا الملف. حتى سوريا التي كان النقاش فيها قائماً حول كل مشروع الحريري، التزمت عملياً بشروط التسوية مع السعودية والولايات المتحدة، ولم تعرقل جدياً خططه، وإن حفظت لنفسها هامشين بارزين، تمثّل الأول في منع الحريري وحلفائه اللبنانيين من الإمساك بالجيش، والثاني، في توفير الحماية للمقاومة باعتبارها القوة القادرة على مواجهة الضغوط الخارجية في جانبها العسكري، وحتى الشعبي.
عملياً، لم يكن هناك تطابق تام بين أدوات الحريري في العمل. كان مشروعه الاقتصادي مرتبطاً بمشروع التسوية الشاملة مع العدو. فيما كانت سياسته المالية مطابقة لهذا التوجّه، وفرض مجموعة من القوانين التي تناسب مشروعه، من سرقة العصر في سوليدير، إلى كل الموازنات وسياسات الإنفاق التي هدفت إلى رشوة حلفائه من السياسيين المحليين، وفتح الباب أمام مشروع الاستدانة الواسع، فيما تولّى سلامة، بصحبة فريق من المصرفيين الجدد أو العريقين، مهمة خلق نظام مصرفي خاص، قام على فكرة الريع وجذب الأموال واستخدامها في خدمة السياسات المالية والسياسية.
برز دور سلامة في مرحلة أولى امتدّت حتى تاريخ اغتيال رفيق الحريري، عمل خلالها بأمانة على تنفيذ المطلوب، وقاد عملية بناء قطاع مصرفي على قياس السياسات القائمة، ودفع ضمنياً إلى خروج المصارف الأجنبية، مبقياً على مؤسسات مصرفية تعمل تحت إمرته، وتتغذّى من برنامج الاقتراض العشوائي، ومن خلال عملية الدعم المباشر من قبل مصرف لبنان لهذه المصارف، سواء في حال تعثّرها، أو في حال تراجعت أرباحها. وصنع سلامة عجائب في هذا العالم، من عمليات الدمج التي كان مصرف لبنان يموّلها، إلى الهندسات المالية الشهيرة. وكان القطاع يمارس بدوره أكبر عملية رشوة وغشّ للمودعين من خلال برنامج الفوائد العالية، بينما تذهب أموالهم لخدمة المشروع المالي والسياسي بفوائد عُليا، لكن، لم يكن هناك أي ضمانات، حتى إذا ما وقع الانفجار، تبيّن أن الأموال قد تبخّرت!
لكنّ سلامة عرف بعد اغتيال الحريري أن دوره تعاظم تلقائياً، فكان أول انفجار علني بينه وبين السنيورة وفريقه العامل في السياسات المالية. لم يكن السنيورة يدرك حجم قوة سلامة، لكنه انتبه إلى أنه غير قادر على تقييده وحصر دوره في سوق النقد، كما لم يكن قادراً على إطاحته. علماً أن السنيورة لم يكن يهتم بإدخال أي تغييرات في السياسات المالية العامة، وبات هو الآخر أسير حاجات لا يلبّيها إلا رياض سلامة.
سلامة لم يكن ليكتفي بدوره، فسرعان ما مدّ يده إلى القطاعات الأخرى، وصار شريكاً في تخطيط السياسات المالية والاقتصادية أيضاً. وقرّر سلسلة من برامج العمل التي تهدف إلى تغذية قطاعات الاستهلاك على حساب أي إنتاج في الاقتصاد، واستغلّ كل النفوذ الذي بناه خلال فترة وجود الحريري، إلى النفوذ الموازي الذي بناه مع سائر أقطاب البلاد من سياسيين ومرجعيات دينية ورجال أعمال، وعمد إلى فرض نفسه، لاعباً لا يمكن أحداً تجاوزه. وتحوّل خلال سنوات قليلة، إلى الرجل المتحكّم بدماء الاقتصاد والمالية العامة وقطاع النقد أيضاً. ولم ينسَ أن يعمّم منطق الزبائنيّة في كل القطاعات التي يخشاها أو التي يريد تعزيزها، وهو ما جعله، خلال سنوات قليلة، اللاعب الأكثر نفوذاً لدى الإعلاميين في لبنان، والأكثر قدرة على التدخل في نادي رجال الأعمال، والأكثر حضوراً في حماية المصارف من الانهيار الفعلي الذي أصابها بعد عام 2011.
خلال كل تلك الفترة، لم يكتف سلامة بالصلاحيات الكبيرة التي يمنحه إياها قانون النقد والتسليف. إلى جانب حصانته القانونية، صار سلامة هو الحاكم الذي يعمل الجميع في خدمته، وكل التغييرات التي شهدناها على صعيد أسماء نواب الحاكم أو بعض المدراء في المصرف المركزي لم تكن لتؤثّر أبداً على وجهته وآلية تحكّمه بالقرارات وآليات العمل. وهو الذي كان قد أجهز كلياً على كل أدوات التدقيق والمحاسبة والمساءلة. إضافة إلى أنه لم يكن يوماً بعيداً عن وجهة السياسات الخارجية حيال لبنان، وكان كل لبنان، وأبعد منه أيضاً، يعرف أن المظلة الأميركية فوقه تكفي لحمايته من الجميع دفعة واحدة.
خلال عقدين فقط، نجح سلامة في أن يكون الشريك الثابت لكل سلطة سياسية تتشكّل في البلاد. هكذا كان وضعه مع التحالف الذي كان قائماً يوم تولّت سوريا الإشراف على تنفيذ تسوية الطائف مع السعودية وأميركا، وظل الثابت الوحيد بعد انقلاب أميركا والسعودية على الاتفاق مع سوريا، وبقيت علاقته قوية مع التركيبة التي لم تتغير بنيتها وإن تَعدّلت موازين القوى الخاصة بها. وهو لم يقطع علاقته مع كل حلفاء سوريا، لكنه عزّز موقعه مع الفريق الآخر، خصوصاً أن ورثة الحريري هم من قادوا الحقبة الجديدة. وهو كان يدرك أن التغيير إنما يقتصر على شكل السلطة ولا يمسّ بأصل النظام، بكل جوانبه السياسية أو الاقتصادية أو المالية، وبقي خادماً لهذا النظام، ومعه كل الأدوات من مصارف ومؤسسات مالية وأندية رجال المال والأعمال. بل عزّز أكثر حضوره على الصعيد الشعبي، من خلال تفريع سياسة الدعم العشوائي، وافتتاح برامج دعم مفتوحة لكل ما ورد اسمه تحت عنوان “المطوّرون”، سواءٌ العاملون في الحقل العقاري أو الاستهلاك على أنواعه أو على مستوى المعرفة والعلوم التكنولوجية، بما في ذلك وسائل الإعلام في لبنان وخارجه. وظل متحكّماً بمالية الدولة، واضعاً الخطة تلو الخطة، لجذب أكبر قدر من الأموال التي تخدم النظام نفسه. لكنه ما كان يتصوّر أن الانهيار سيحصل على النحو الذي حصل فيه، ولم يكن يتصرف يوماً على أن ساعة محاسبته قد تقترب. وهو اليوم، حتى بعد خروجه من مصرف لبنان، لا يرى أن الغطاء رُفع عنه، سيّما أنه رأى بأمّ العين كيف أن حلفاءه من النوادي السياسية والاقتصادية والمالية والمصرفية، جهدوا لكي يبقى في منصبه، لكن فاته أن في القدر وقتاً لا يمكن لأحد التحكّم به… وقد حانت لحظته!