مقالات
هل يدخل لبنان من بوابة الازدهار الأميركي إلى اقتصاد التطبيع؟

لا شكّ في أن التحوّلات التي أعقبت “طوفان الأقصى” تضع قوى المقاومة في لبنان والمنطقة أمام واقع صعب ومعقّد. تكاد تنحصر الخيارات أحياناً بين السيئ والأكثر سوءاً، بالتوازي مع حرب هجينة مستمرة تتعدد فيها الأدوات وتتشابك فيها الأبعاد العسكرية والأمنية والاقتصادية والإعلامية النفسية. يتكرس هذا السوء إذا ما انخرطت سوريا في مسار التسليم، رغم ما يُشاع من أن التوقيع الرسمي لا يغيّر الكثير فعلياً من الوقائع القائمة اليوم.
توطئة لما سوف يأتي تباعاً
الحديث عن المقاومة في لبنان لا ينطلق دائماً من اعتبارات محلية. على مدى عقود شكّلت هذه المقاومة جزءاً أصيلاً من مشروع المقاومة في المنطقة، ومثّلت رأس حربته انطلاقاً من التماس الجغرافي مع المشروع الصهيوني، وبدافع ارتباطاتها العقائدية. لا ينفي البعد الإقليمي للمقاومة خصوصيتها اللبنانية ومشروعيتها الوطنية، وهو أمر ينطبق بالمثل على فصائل المقاومة الفلسطينية وسائر التنظيمات في المنطقة.
أكثر من ذلك، المشروع الصهيوني نفسه يفوق بأشواط حركات المقاومة ارتباطاً بالخارج. رغم أن هذا الكيان مؤطر بوقائع جغرافية على أرض فلسطين، لكنه ثقافياً وديمُغرافياً وعسكرياً واقتصادياً لا ينفصل عن الحضارة الغربية ببعدها الاستعماري، وعن الحاضرة المركزية الأميركية المهيمنة في قلب هذه الحضارة. الفارق هنا أساسي: ارتباطات حركات المقاومة من داخل المنطقة وارتباط “إسرائيل” من خارجها.
اليوم تغيّر حزب الله في علاقته بالمحيط وأعاد تموضعه في إطار مقاربة جديدة حتّمتها التحولات، لكن “إسرائيل” بقيت على علاقتها العضوية بالخارج… الإسرائيليون في أساسهم طارئون على المنطقة من خارجها.
خلاصة الأمر أنه متى ضعف هذا الخارج الذي تعتمد عليه “إسرائيل” كشرط لبقائها واستمرارها، تتجلى حينها قدرة شمشون الحقيقة… هذه توطئة لما سوف يأتي تباعاً.
لبنان على مفترق تاريخي
تقف المنطقة اليوم أمام مفترق تاريخي تدلّ معطياته الظاهرة على أن كفة الصراع اختلّت وباتت تميل إلى مصلحة “إسرائيل” والولايات المتحدة. التقدّم الصهيوني الأميركي تؤكده وقائع موضوعية، فيما يعكس تراجع محور المقاومة أدوات قياس منطقية. في الظاهر تعرّضت حركات المقاومة في لبنان وفي فلسطين، لنكسات ونكبات وخسائر جسيمة، يزيد من وطأتها ما حصل في سوريا، إضافة إلى الضغوط المتواصلة وتقييد الهوامش بمستويات متباينة وفق الساحات. إيران مسألة أخرى تحتاج إلى نقاش منفصل. في المحصلة اختلت موازين القوى وقواعد الردع وخرجت المبادرة الاستراتيجية من زمام المحور.
هل يعني ذلك أننا دخلنا العصر الإسرائيلي وأنه يتعين على شعوب المنطقة التأقلم مع هذا الواقع الجديد؟ أم أن المشهد الجديد لا يعدو كونه فصلاً من تاريخ المنطقة، وهو تاريخ ما زال بعيداً وعصيّاً على بلوغ نهايته التي لا نهاية لها؟
الثابت أن هناك إنجازات حقيقية حققتها “إسرائيل” في العامين الأخيرين، لكن أيضاً هناك اعترافات صريحة يعكسها الإعلام العبري، بأن كل هذه الإنجازات لم تلامس حدود النصر المطلق والحسم الذي يسعى إليه نتنياهو. طالما لم يتحقق الحسم، وطالما أن هناك بذرة اسمها المقاومة لم يتم استئصالها، يبقى الاحتمال قائماً بأن تعود هذه البذرة إلى النمو متى وجدت الشروط البيئية الملائمة، ولو بعد حين. “إسرائيل” قبل غيرها تدرك ذلك جيداً.
منطق احتمال تجدد الحرب على إيران ولبنان يكتسب وجاهته من هذا المنظور. عند هذا التقاطع تلتقي رغبة نتنياهو و”حكومة الحسم” التي يرأسها، مع عقيدة جيش الاحتلال الجديدة التي تسعى إلى تبديد أي تهديد منظور، حتى لو تطلب ذلك ضربات استباقية وفتح جبهات متعددة.
منذ أشهر، أعلن نتنياهو أن “النصر الكبير” على إيران فتح “فرصاً إقليمية كبيرة”، لكن منذ أيام، قال رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير إن “المعركة لم تنتهِ بعد” وإن “جميع الجبهات لا تزال نشطة، وما زالت تنتظرنا تحديات كثيرة”.
في الـ17 من كانون الأول/ديسمبر الحالي كتب يوآف زيتون في “يديعوت أحرونوت” أن نذر عملية إسرائيلية محتملة تلوح في لبنان، والسبب وفق الكاتب، أن حزب الله جرى ردعه لكنه لم يُهزم بعد، وأن الأخير ما زال يحتفظ بترسانة ضخمة ويمتلك عشرات الآلاف من العناصر المسلحة.
إبراز هذا السياق ليس بهدف مناقشة احتمالات الحرب، إذ سبق استعراض ذلك في مقالات سابقة، كما أن هدفه ليس الإضاءة على تحديات “إسرائيل” على أعتاب عام جديد، ومحاولة التقليل من الإنجازات التي حققتها. الإشكالية تتمحور حول لبنان، حيث يفرض الاستعصاء ثقله على هذه المرحلة، وتراوح المواقف بين الوضوح والضبابية، فيما تتقدّم على أرض الواقع ترتيبات مع العدو لم تعد محظورة وتتجاوز الخطوط التي كانت منذ أمد قريب حمراء.
يلحّ السؤال من جديد: هل بدأ لبنان بدخول العصر الإسرائيلي بطريقة مواربة؟
رغم أن حزب الله وفق القراءة الإسرائيلية لم يهزم، إلا أن الإجراءات التي تتبعها السلطة في لبنان في سبيل تجنّب الحرب، كما توحي تصريحاتها وتحركاتها، تصب في نهاية المطاف بتحقيق الأهداف الإسرائيلية سلماً وتقدّم أثماناً باهظة في سبيل اتقاء النار الإسرائيلية.
ما سبق لا ينفي أن الموقف في الحقيقة بالغ الصعوبة، كما لا يعني أن الضغوط الأميركية لا تضع لبنان أمام واقع شديد التعقيد. يزيد من وطأة الالتباس، غموض في التوجهات والنوايا وسيل من المعلومات التي لا شيء ينفيها ولا شيء يؤكدها. هل هناك ترتيب لصفقة ما؟ أم ما نشهده ليس إلا ترجمة لصفقة تم الاتفاق عليها مسبقاً مع الجانب الأميركي ويجري تخريجها تباعاً؟ أم أن المسألة ما زالت في إطار الكباش الذي يحسم وجهته اجتماع فلوريدا المقبل بين ترامب ونتنياهو؟
هل يدخل لبنان العصر الإسرائيلي؟
يفرض السؤال نفسه لأكثر من سبب. مقابل الوضوح الذي يسم الكثير من التصريحات الرسمية يسود الغموض العديد من المسارات، فيما تُصنع قرارات وازنة ومؤثرة خلف الكواليس.
للمرة الأولى منذ عام 1983 يخوض لبنان مفاوضات مباشرة مع الطرف الإسرائيلي عبر ممثلين سياسيين. في وقت تغيب فيه أي ضمانات تلجم الأطماع الإسرائيلية التاريخية، يعلن رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام الانتقال إلى المرحلة الثانية من نزع السلاح شمال الليطاني.
يتحدث رئيس الجمهورية اللبنانية بدوره أن “منطق القوة لم يعد ينفع، وعلينا أن نذهب إلى قوة المنطق”، ويؤكد الاستمرار في عملية حصر السلاح “وفقاً للظروف”.
الجديد الذي برز في مواقف الأخير هو إعلانه غداة احتفالات عيد الميلاد أنّ “شبح الحرب” تمّ إبعاده عن لبنان “نتيجة اتصالاتنا الدبلوماسية”، وأن الأمور ستذهب نحو الإيجابية”. كيف؟ لماذا؟ لا يملك المرء سوى الانتظار.
تصريحات تبعث من دون أدنى شك على التفاؤل لجزء كبير من الشعب اللبناني، لكن يقابلها في الطرف الإسرائيلي تصريحات لا توحي بأي طمأنينة، ولا يتعلق الأمر هنا بالتهديدات المتواصلة بشأن نذر حرب مقبلة، إنما بنتائج وأثمان يريدها الإسرائيلي ويسعى إليها بدافع تداعيات الجولة الأولى من الحرب الماضية التي لم تنتهِ.
في الـ17 من كانون الأول/ديسمبر الحالي أشار وزير خارجية الكيان جدعون ساعر بشكل صريح إلى وجود رغبة إسرائيلية في التطبيع مع لبنان. التصريح ليس الأول من نوعه، إذ سبق أن نقلت وسائل إعلامية إسرائيلية عن مصدر سياسي إسرائيلي يُعتقد أنه نتنياهو في آذار/مارس الماضي أن تل أبيب مهتمة بالتوصل إلى اتفاق لتطبيع العلاقات مع لبنان. تكرر ذلك لاحقاً بأكثر من صيغة.
من منظور “إسرائيل” ليس بالضرورة أن يتماهى التطبيع مع لبنان مع نسخة الاتفاقيات الإبراهيمية. ما يهمّ تل أبيب هنا هو شيء آخر مختلف، وهو أقرب إلى نموذج التطبيع مع الأردن ومصر وسوريا. هنا يأتي الأمن أولاً وثانياً وثالثاً.
تشكل دول الطوق جزءاً لا يتجزأ من المجال الحيوي المباشر للمشروع الصهيوني وعند تخومه. تدرك “إسرائيل” جيداً أن الجولة الأولى من حربها على حزب الله بعيدة من القضاء على بذرة المقاومة، وأنها إزاء نافذة زمنية محدودة يتعيّن فيها استغلال الإنجازات الأمنية والعسكرية التي حققتها، وتسييلها إلى مكتسبات سياسية وميدانية واقتصادية، وإلا فإنها تخاطر مع مرور الوقت بتآكل إنجازاتها بمعزل عن الخسائر التي لحقت بالمقاومة وبيئتها وبلبنان عموماً.
تجعل الوقائع من هذا التحدي هاجساً، خصوصاً أن البيئة الإقليمية غير مستقرة بعد، والأهم أن البيئة الدولية باتت تتسم إلى حد كبير بعدم اليقين. ما هي الخيارات المتاحة؟
محاولة تطويق المقاومة وخنقها من خلال حلول مستدامة غير ظرفية أو مؤقتة. من ذلك تشبيك لبنان في مشاريع اقتصادية برية وبحرية تؤدي إلى ربط النزاع وتكبيل المقاومة.
ربما يحتاج هذا الأمر من وجهة نظر إسرائيلية إلى جولة عنف جديدة تحسّن الشروط وتكفل تحقيق هذا الهدف وسائر الأهداف الأخرى، إذا نجحت، لكن قد يكون للطرف الأميركي رأي آخر واعتبارات أخرى، أو تباينات داخل الإدارة الأميركية.
فوائد هذا الخيار، إذا نجح، معتبرة، لكن دونه أيضاً كوابح ومخاطر. بالنسبة إلى إيران، مكتسبات الحملة العسكرية أعلى بكثير، إذا نجحت، لكن أيضاً محاذيرها قد تجعلها مجازفة غير مأمونة العواقب.
يقول السيناتور الأميركي ليندسي غراهام المؤيد لـ”إسرائيل” إنه بضرب حماس وحزب الله سنرى تطبيعاً فورياً بين السعودية وبين “إسرائيل”، وهنا برأيه يبدأ مشوار الخط الإبراهيمي. في تصريحه قبل نحو أسبوع يشجّع ترامب على الانخراط في حملة جوية إلى جانب “إسرائيل” للقضاء على الحزب إذا لم يسلّم سلاحه الثقيل.
ما يرشح حتى الآن من مجريات التفاوض بين لبنان وبين “إسرائيل” يشير إلى محاولة لخلق أمر واقع يقيّد لبنان بمنافع اقتصادية عنوانها المعلن هو التنمية، وهدفها الحقيقي تحقيق حلول أمنية بطرق التفافية وإنشاء مناطق عازلة، وربط “الازدهار” اللبناني بشروط الارتهان لـ”إسرائيل”. ما الذي يدلّ على ذلك؟
غموض
في وقت يجاهر فيه الطرفان الإسرائيلي والأميركي بأن النقاشات تجري فعلياً مع الجانب اللبناني حول “التعاون الاقتصادي”، يسود الغموض حقيقة الموقف اللبناني الرسمي بهذا الشأن.
بداية الشهر الحالي وعقب الاجتماع الأول الذي ضم ممثلين سياسيين من طرف لبنان و”إسرائيل” ضمن إطار لجنة الميكانيزم، أعلن نتنياهو أن الاجتماع “شهد اتفاقاً على صياغة أفكار لتعزيز التعاون الاقتصادي بين لبنان وإسرائيل بعد نزع سلاح حزب الله”. كما أعلن المبعوث الأميركي توماس براك أنّ “منطقة اقتصادية جديدة” ستُنشأ، وأن “تفكيراً معمقاً” جارٍ حول مستقبلها.
رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام سارع إلى نفي أي توجّه نحو التطبيع، مؤكداً أنّ لبنان لا يمكن أن يقيم علاقات اقتصادية مع دولةٍ عدوة إلا بعد تحقيق سلام عادل وشامل.
لكن بالنظر إلى كيفية تدرّج الأمور منذ اتفاق وقف إطلاق النار، فإن القلق يبقى مشروعاً. لنتذكّر أنه في البداية رفض لبنان الرسمي تطوير المحادثات التقنية المعنية بالتثبت من الانسحاب الإسرائيلي من أراضيه إلى محادثات سياسية. لاحقاً وبشكل مفاجئ جرى تعيين ممثل سياسي ضمن المحادثات وسط حديث عن إمكانية توسيع المشاركة السياسية، وقبل أن تلتزم “إسرائيل” بأي خطوة مقابلة.
من جديد، الموقف ليس بسيطاً لكن التفاوض فن واستراتيجية ومراوغة، والحرب قبل أي شيء معركة إرادات وامتداد للسياسة. من يذهب إلى التفاوض من دون استعداد للتضحية فسوف يفرّط حكماً بأفضل الممكن.
رغم ذلك، هذا لا يجعل السير في حقل الضغوط الأميركية والعربية أمراً سهلاً، خصوصاً في الملف الاقتصادي الذي يلامس واقعاً معيشياً صعباً ولا تنفصل معالجته عن السياسة.
في هذا السياق، لا تبدو المقاربة الاقتصادية التي تسعى الحكومة اللبنانية إلى بلورتها خياراً تقنياً معزولاً، بل محاولة لإعادة تموضع في لحظة إقليمية متحركة، حيث تتقاطع متطلبات التعافي الداخلي وإعادة الإعمار مع رهانات داخلية وخارجية للاندماج في المسارات الجديدة في المنطقة. فبعد تداعيات الحرب وما أفرزته من اختلالات، يبرز الاقتصاد بوصفه المدخل الأقل كلفة، ربما، والأكثر إلحاحاً لتحقيق انفراجات أو تجنب انفجارات.
بداية شهر آب/ أغسطس الماضي أعلن الرئيس اللبناني أن “منطقتنا تشهد تحولات كبيرة”، مشيراُ إلى أنه بات ضرورياً إعادة ربط لبنان بدور إقليمي منتج. وقال خلال حفل للمغتربين اللبنانيين، إن “هناك استثمارات عملاقة في مجالات جديدة مثل الطاقة والاقتصاد الأخضر والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة”، وأضاف: “كلبنانيين لدينا رأس مال بشري مبدع ومؤهل ولدينا شبان وشابات إذا أُتيحت لهم الفرصة يمكن أن يكونوا جزءاً أساسياً من هذا التحول”.
تلحّ الأسئلة من دون أن تعثر على أرض صلبة تستقر عليها. الأسئلة تولّد المزيد من الأسئلة فيما يلوح في الأفق المزيد من الغيوم الغامضة التي يصعب معرفة إذا ما كانت تحمل بشائر أم أعاصير؟ مثلاً، ما حقيقة المواقف التي صدرت عن الرئيس اللبناني لموقع إلكتروني محلي الشهر الماضي وما خلفيتها؟ ولماذا لم يصدر أي توضيح بخصوصها بعد سحبها؟ هل بتنا أمام واقع جديد وهل يجب أن نتوقع الأسوأ؟
معاينة التاريخ من الحاضر قد تدفع إلى اليأس والتشاؤم، لكن، كما للتاريخ وجوه تراجيدية فإن صفحاته تطفح أيضاً بالعبر والدروس… والمفاجآت. هذه توطئة لما سوف يأتي.
علي فواز
المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع "صدى الضاحية" بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و"الموقع" غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك.



