مقالات

المقاومة في لبنان : “أم الصبي”

يجمع اللبنانيون على أنّ بلادهم تمرّ في أدقّ وأصعب وأخطر مراحلها منذ تأسيس الكيان اللبناني. فالمتغيّرات والتحوّلات التي أفرزها عامان من الحروب الإسرائيلية في المنطقة، وما نتج عنها من موازين قوى جديدة، وضعت دول المنطقة بأسرها، من دون استثناء، أمام تحدٍّ جدّي يطال بقاءها ووجودها ككيانات سياسية نشأت بعد الحرب العالمية الثانية.

ولم تكن تصريحات الموفد الأميركي توم براك حول نهاية حقبة سايكس – بيكو سوى تعبير عن هذا الواقع المستجد، الذي ترى فيه واشنطن، بوصفها رأس المحور الغربي، فرصة لإعادة ترتيب المنطقة وفق قواعد ووقائع جديدة تضمن لها مسألتين أساسيتين: تثبيت نفوذها وهيمنتها على المنطقة باعتبارها الفاعل الوحيد فيها، وضمان التفوّق الاستراتيجي لـ”إسرائيل”، وإجبار الدول العربية والإسلامية على التعامل معها كدولة طبيعية وشريكة في المنظومة الإقليمية، تحت ما يُسمّى اتفاقيات أو تفاهمات “أبراهام”.

في خضمّ هذه البيئة الاستراتيجية القلقة والخطيرة، يقع لبنان بين حدّين مفتوحين:
حدود شرقية – شمالية مفتوحة على أزمات وحالات عدم استقرار، تفسح المجال أمام تقسيم سوريا وتجزئتها، الأمر الذي ينعكس مباشرة على الواقع السياسي والديمغرافي والطائفي اللبناني الهشّ أصلًا.
وحدود جنوبية مفتوحة على التوسّع والعدوان الإسرائيلي، في إطار السعي إلى تحقيق حلم “إسرائيل الكبرى”، والذي يتضمّن، حكمًا، أطماعًا جدّية في الجنوب اللبناني، وصولًا إلى ما بعد نهر الليطاني وربما حتى حدود نهر الأوّلي.

بين هذين الحدّين، يتمزّق الوطن بفعل انقسامات عمودية حادّة، واتجاهات سياسية، بل وجودية، متعارضة في مقاربة موقع لبنان وهويته. فلا يتّفق اللبنانيون لا على تحديد العدو ولا الصديق، ولا على المصالح القومية والوطنية الجامعة، ولا حتى على مفهوم السيادة والاستقلال، إلى حدّ أنّ رئيس حكومة البلاد يضع بسط سلطة الدولة في مواجهة المقاومة، لا في مواجهة الاحتلال، الذي يشكّل، وفق أبسط قواعد المنطق، العائق الوحيد أمام حضور الدولة وبسط سلطتها.

وهذا ما تؤكّده بيانات الجيش اللبناني التي تشير بوضوح إلى أنّ المانع الوحيد لاستكمال انتشاره في جنوب لبنان هو الاحتلال.

إنّ مجمل هذه الوقائع يضع لبنان أمام تهديد وجودي حقيقي، بين بقائه وطنًا نهائيًا على كامل مساحته البالغة 10,452 كيلومترًا مربعًا، وبين تقسيمه أو سلخ أجزاء منه واقتطاعها في إطار المشاريع التوسّعية المحيطة. وفي كلتا الحالتين، فإنّ لبنان بصيغته الحالية، التي أعاد التذكير بها البابا ليون خلال زيارته الأخيرة للبنان، سيكون في مهبّ الرياح، ولن يبقى من لبنان، الوطن النموذج للعيش المشترك، ومساحة التلاقي بين المذاهب والطوائف والأديان والاتجاهات، وصلة الوصل بين الشرق والغرب، أيّ أثر يُذكر.

على العكس من ذلك، فإنّ تشظّي لبنان بصيغته الحالية من شأنه أن يفتح الباب واسعًا أمام صراعات طائفية ومذهبية على مستوى المنطقة، ويُنتج موجات هجرة ونزوح متعدّدة الاتجاهات، ولا سيّما نحو الغرب، وبالتحديد إلى أوروبا. كما سيتعرّض الوجود المسيحي في لبنان، وهو آخر وجود مسيحي مستقرّ وقوي في الشرق، لخطر جدّي وفعلي.

أمام هذه المخاطر، تقف المقاومة بوصفها جهةً مسؤولةً ومعنيّة بالحفاظ على لبنان. فالمقاومة التي قاتلت لأكثر من أربعين عامًا من أجل تحرير الأرض اللبنانية، وتعزيز سيادة لبنان، وردّ العدوان عنه ليبقى وطنًا آمنًا مزدهرًا وموحّدًا، قدّمت في سبيل ذلك أغلى التضحيات، وفي مقدّمتها ثلاثة من أمنائها العامّين: من السيّد عباس الموسوي، إلى سيّد شهداء الأمّة السيّد حسن نصر الله، والسيّد هاشم صفي الدين. وهي أيضًا المقاومة التي افتقدت القائد المؤسّس الإمام السيّد موسى الصدر على الطريق ذاته، وقد دفعت أثمانًا باهظة وقدّمت تضحيات عظيمة وكبيرة من جمهورها وبيئتها ومجتمعها.

من هنا، لا يمكن لهذه المقاومة، في هذه الظروف الدقيقة، إلّا أن تتعامل بحكمة عالية جدًا، بهدف قطع الطريق أمام أي مسار يؤدّي إلى تضييع تلك الإنجازات أو إلى ضياع الوطن بأسره.

في المقابل، تتراكم أخطاء السلطة وخططها، إلى جانب حقد القوى المعادية للمقاومة في الداخل، يومًا بعد يوم، إلى الحدّ الذي حذّر منه الأمين العام لحزب الله في خطاباته الأخيرة، معتبرًا أنّها قد تقود إلى مخاطر أعظم من تلك القائمة حاليًا.

إنّ الذين يقاربون مصير الوطن بعقلية الخوف والانبطاح أمام الخارج من جهة، وبحقدٍ على أبناء وطنهم المقاومين من جهة أخرى، يتبنّون منهجية تقود حتمًا إلى جعل لبنان مكشوفًا بالكامل أمام رياح البيئة الاستراتيجية المحيطة، وإلى وضعه في قلب العاصفة.

ومن الواضح أنّ المقاومة تعي هذه الحقيقة إدراكًا كاملًا، وتراعي بدقّة الأوضاع القائمة، واضعةً نصب عينيها كيفية الحفاظ على لبنان في هذه المرحلة الخاصة. لذلك، تبذل جهودًا مركّزة لضمان أربعة عناصر أساسية:

أولًا: الحفاظ على الاستقرار الداخلي، وسدّ الطريق أمام أي محاولة للعبث بالوحدة الوطنية أو دفع البلاد نحو التفرقة والشرذمة والاقتتال.

ثانيًا: بناء مناعة وطنية شاملة في مواجهة محاولات استضعاف لبنان والهيمنة على قراره السياسي والسيادي من قبل الولايات المتحدة الأميركية، الساعية إلى تحويل لبنان ساحةً لنفوذها المطلق.

ثالثًا: التمسّك بعناصر قوة لبنان وحمايتها، وفي مقدّمتها قوة المقاومة، بما يمكّن لبنان من الدفاع عن نفسه، ويمنعه من أن يكون لقمةً سائغةً للأطماع الإسرائيلية.

رابعًا: العمل على مشروع بناء الدولة وتعزيز حضورها في معالجة شؤون البلاد، بما يمنع أي فراغ قد يسمح بتحويل لبنان إلى دولة فاشلة وهشّة، قابلة للتلاعب، وتجاوز سيادتها وقرارها الوطني.

ولضمان هذه العناصر الأربعة، تعتمد المقاومة سياسة شديدة العقلانية، حكيمة ومدروسة بعناية، تتجلّى في أداء يجمع بين الصمود والثبات في الموقف من جهة، والمرونة والتكيّف مع التحوّلات والمتغيّرات من جهة أخرى.

وفي المواقف الأخيرة للأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، الكثير من الدلالات التي تؤكّد هذا المنحى؛ إذ أيّد المسار الدبلوماسي للدولة ودعمه، وفي الوقت نفسه رفض تعيين مدني في لجنة “الميكانيزم”، معتبرًا ذلك خطيئة جديدة تُضاف إلى خطيئة الخامس من آب. كما توجّه الشيخ قاسم إلى خصوم المقاومة داعيًا إيّاهم إلى الابتعاد عن المشروع الإسرائيلي، مؤكّدًا استعداد المقاومة للتجاوب الإيجابي بما يخدم استقرار البلاد.

وهكذا تتعامل المقاومة بوصفها “أمّ الصبي”، الحريصة على لبنان بكل فئاته ومكوّناته. وقد تجلّى ذلك أيضًا في مشاركتها الفاعلة في استقبال البابا ليون، عبر كشّافة الإمام المهدي، الذين انتشروا على طول مسار زيارته من الضاحية الجنوبية إلى بيروت، في تعبير واضح عن وحدة النسيج اللبناني، وتمسّك جمهور المقاومة بلبنان وطنًا نهائيًا لجميع أبنائه، وتأكيدًا على أنّ المقاومة عاملٌ إيجابي في الحفاظ على تنوّع لبنان وقيمه الرسالية.

كما تحرص المقاومة على التعاون مع الجيش اللبناني في مهامه، وتساعد على انتشاره، رغم عدم إقدام العدو على أي خطوة جدّية تنفيذًا لاتفاقية وقف الأعمال العدائية. وفي هذا السياق، تُبدي المقاومة ضبط نفسٍ استثنائيًا حيال خروقات العدو التي ترقى إلى مستوى الاستمرار في الحرب.

إنّ ضبط النفس هذا – الذي تحاول بعض الدعاية الداخلية الحاقدة على المقاومة تسويقه على أنّه ضعف، إلى حدّ اعتبار رئيس الحكومة نواف سلام أنّ المقاومة وسلاحها لم يحقّقا الردع، متناسيًا أكثر من عشرين عامًا من الردع الذي وفّره هذا السلاح- هو في حقيقته تعبير عن حرص عميق على لبنان، والتزام بمسارٍ قرّرته المقاومة مع انتهاء حرب “أولي البأس”، يقوم على قاعدة أنّ المقاومة تقف خلف الدولة.

وهو المسار نفسه الذي كشفت من خلاله المقاومة زيف عددٍ من الادّعاءات والسياسات المنبثقة من مقولة قوة لبنان في ضعفه أبرزها تلك التي روّجت للاعتماد على المجتمع الدولي أو الاستناد إلى الولايات المتحدة الأميركية كضمانة.

بعد عام على انتهاء الحرب، بات كلّ لبناني منصف يدرك أنّه لا يمكن التعويل على تلك المقولات المبسّطة والسطحية، التي لا تعدو كونها مبرّرات لسياسات الضعف. وأنّ الحلّ الوحيد لاستقرار لبنان، وسيادته على أراضيه، وبسط سلطة الدولة بمعناها الحقيقي غير المشوّه على كامل الأراضي اللبنانية، هو أن يكون لبنان قويًا ومقتدرًا.

وإذا كان مبعوث الرئيس الأميركي براك قد أكّد أنّه لا يوجد حلّ بالقوّة لسلاح المقاومة، فهل يقرّ اللبنانيون في المقابل بأنّه لا أحد يستطيع ليّ ذراع لبنان عندما يعتمد على عناصر قوّته؟

إنّ المقاومة، بحكمتها ومسؤوليتها، تسهم في صناعة هذا الوعي الوطني، بما يفتح الآفاق أمام تكريس الحالة الوطنية المقاومة، وقطع الطريق على مشاريع العدو، حمايةً للبنان وحفظًا لوجوده.

الميادين

المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع "صدى الضاحية" بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و"الموقع" غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى