مقالات
هكذا تفوقت كارين على لغز “التأتأة”

كارين الحر ابنة الـ 19 عاماً من جنوب لبنان لا تروي حكايتها لتبكي، بل لتلمس شيئاً في القلب، شيئاً يشبه الموسيقى التي لا تحتاج إلى سرعة كي تُسمَع، هي فتاة لبنانية شكّلت نموذجاً للحياة واجتراح الأمل.
كنا على تواصلٍ معها في اللحظات التي قامت طائرات الاحتلال بعدوانٍ على بلدتها وعددٍ من المناطق والقرى اللبنانية الجنوبية، مستهدفةً منازل المدنيين، لكن هذا لم يمنع من إجراء المقابلة.. فالأمل يغلب الألم في لبنان.
بمجرد الاستماع إلى صوتها الصادح الواثق الذي أردى بـ التأتأة (التلعثم) تدرك تماماً، أن لـ “الكاريزما” دوراً مركزياً، فمرحى لسِعة الثقة المتغلغلة في روح كارين محمد علي الحر، من بلدة جباع الجنوبية وتقطن في حومين الفوقا.
تجربتها التي أسرّت بها لـ الميادين نت تغني عن ندواتٍ وربما جلسات طبية وتدريبية، أن تخرج من مشكلتك بنفسك وبمواكبة من أقرب المقربين لك، فهذا نجاح يسجّل، وتجربة يجب أن تعمم.
وها هي كارين الشغوفة منذ نعومة أظافرها بعلم النفس والقراءة والكتابة. تؤلف كتاباً سمتّه ” تأتأة”، تسرد فيه قصتها وسبل تخطيها للصعاب.. وهي تصر على الدراسة الجامعية باختصاصين وأيضاً مع طموحات أكثر وأشمل..
ليست التأتأة عثرة في اللسان، بل هي همسةٌ تتردّد بين ما يفكّر فيه القلب وما تسمح به الكلمة. تتباطأ الحروف كأنها تبحث عن طريقٍ أوضح، ويشارك الجسد ارتجافتها الخفيفة. هي ظلٌّ لغويّ رقيق، يذكّرنا بأن الكلام شجاعة قبل أن يكون صوتاً.
هناك حكايات تولد مرتعشة، لا لأن الحياة قاسية، بل لأن الصوت الذي يحملها لا يجد طريقه فوراً إلى الخارج. حكاية كارين واحدة من تلك الحكايات التي تحتاج أن تُقال ببطء..
كأنها تخاف أن تُفلت كلمة قبل أوانها، أو أن تُعلن حضورها باهتاً.
بدايات: صوت يتلعثم وطفلة تتعلّم أن تخفي قلبها
تقول كارين للميادين نت، وكأنها تبوح بمكنوناتها: “لم تكن المشكلة بتأتأتي، بل بنظرة العالم إليها”. كانت طفلة خجولة، كلّ كلمة تخرج منها كأنها تُجرّ عبر مسافة طويلة من الخوف.
لم تكن الصبية تخاف من الحرف، بل من الوجوه التي تتلقّاها. وجوه تستغرب، ربما تبتسم، تهمس… ثم تمضي.
كبر ذلك الشعور مثل ظلّ طويل، يتقدّمها في الصفّ، وفي الملعب، وحتى في البيت أحياناً.
كانت تقارن نفسها بالآخرين، وتتساءل بصمت: لماذا يتدفّق صوتهم ، بينما يقف صوتي على أطراف الكلمات؟
ومع ذلك، كان هناك صوت داخلي — هادئ، حكيم، ومغاير — يهمس لها دائماً: الاختلاف ليس ضعفاً… بل بداية الطريق نحو نفسك.
حلقات ناقصة في ذاكرة مكتملة بالقلب
تتوقف قليلًا، ثم تتابع: “لا أعرف متى بدأت التأتأة بالضبط. كأنها جاءت تمشي على رؤوس أصابعها… ثم سكنت في صوتي”. هناك فجوات لا تتذكّرها، وجدران لا تعرف متى بُنيت.
لكنها تعرف شيئاً واحداً: لم تكن بحاجة إلى علاج بمفهومه الطبي، بل إلى علاج يشبه المصالحة. رحلة طويلة من القبول، من رفع الحماية عن الصوت وتركه يخرج كما هو.. من دون أقنعة، من دون اعتذار، ومن دون أن تخشى ارتباكه أمام الآخرين. إنها تدرك الآن أن الصوت حين يُترك ليكون نفسه… يتعلّم أن يهدأ.
ليست التأتأة خللاً في الحرف، بل هي ارتباكٌ صغير في الطريق بين القلب والكلمة. فالصوت يعرف تماماً ما يريد قوله، لكنه أحياناً يقف عند عتبة النطق، كأنّه يتردّد أمام مرآته.
تتكرر الحروف، تمتد الأصوات، وتتعثّر الجملة قبل أن تتشكّل. وقد يصاحب ذلك رعشة جفن، أو ارتجافة شفة، أو انقباضٌ خفيف في الوجه… كأن الجسد كلّه يشارك في ولادة الكلمة.
عنوان كتابي صارخ و مقصود.. بذلك أردت أن يكون مثل صدى التجربة نفسها: متقطّع، مختلف، يلفت الانتباه ويعكس التأتأة بصوتها الخاص.
تبدأ التأتأة غالباً في طفولةٍ ما بين اللعب واللغة، حين تكون الكلمات أسرع من قدرة الطفل على لَملَمتها. وقد تختفي وحدها، أو تبقى كضيفٍ ثابت يحمل شيئًا من الوراثة، شيئاً من المزاج، وشيئاً من الحالات العصبية الخفية التي لا تُرى. ومع ذلك، لا تُشبه التأتأة مرضاً، بل ظلاً يعبر الصوت، ظلّاً لا ينتقص من الإنسان شيئاً… إنما يذكّره دائمًا بأن القوة ليست في انسياب الكلام، بل في شجاعة نطقه.
حين تكتب الروح ما لا يقوله اللسان
في المدرسة، كانت كارين الأولى، الدرجات العالية كانت ملاذها، طريقها السرّي لتعويض ارتباكها العلني. الدراسة عالمٌ لا يتلعثم، والكتابة مكان لا تخونه فيه الحروف. “كنتُ أكتب كي أختبئ… وكي أظهر في الوقت نفسه”، تقول بثقة .
كنتُ متفوّقة في جميع المواد، ومن الأوائل في صفي، وقد وجدتُ في الدراسة ملاذاً يعوّض ارتباكي في الكلام. كنتُ أميل دائمًا إلى الأنشطة الكتابية، فالكتابة كانت المساحة التي لا تتلعثم فيها روحي.
ومع ذلك، لم تخلُ المدرسة من المواقف المؤلمة، كانت القراءة الجهرية أصعب اللحظات، وكنت أتحمّل أحياناً شيئاً من السخرية أو النظرات التي تجرح بصمت.
لحظة خروج الكتاب من المطبعة شعرت بمزيج من الفخر والدهشة، كأن حلماً طال انتظاره أصبح واقعاً بين يديّ. أما خلال حفل التوقيع، فكانت المشاعر أقوى: رؤية الناس يحملون كتابي ويقرأون كلماتي
لكن القراءة الجهرية.. كانت معركة يومية. هناك، أمام الصفّ، كانت الكلمات تتحوّل إلى حجارة صغيرة تتعثر بها.
وكانت نظرات البعض تجرح أكثر مما تواسي. ومع ذلك، كانت تعود إلى دفترها كل يوم…تكتب بصوتٍ لا يتهجّأ، وتبني ذاتها من جديد.
حضن العائلة: حين يمسك القلب بيد الصوت
لم تكن رحلة الخروج من الانطواء رحلةً فردية. تتذكّر أهلها كما لو أنهم جدارٌ من ضوء:
يربّتون على كتفها حين يهتز الكلام، ويضمّدون جرحها غير المرئيّ بالطمأنينة. “كانوا يرون القوة فيَّ قبل أن أراها”، لم يدفعوها إلى الهرب، بل إلى المواجهة. وبفضلهم، صار الطريق أقلّ وحشة، وصار صوتها — حتى وهو يتأتئ — أقرب إليها من أي وقت مضى.
تقول “كان أهلي يرون فيّ قوةً لا أراها، ويدفعونني برفقٍ إلى المواجهة لا إلى الهروب. دعمهم المعنوي كان السند الذي جعل خطواتي أثبت، وجعلني أؤمن بأنني قادرة على تجاوز هذه المرحلة”.
الجنوب… وتربية الجبال التي لا تتراجع
كارين ابنة بلدة جنوبية، وهذا وحده يكفي لتفسير الكثير. هناك، حيث يتعلم الناس كيف يواجهون الحياة بصلابة، ينبت الصبر مثل شجرة لا تموت. في الجنوب، تُعلّم الرياح أبناءها أن الانكسار مرحلة وليست نهاية، وأن المواجهة قدر لا يمكن الهرب منه. ” نشأتُ في بلدةٍ صامدةٍ في قلب الجنوب، حيث القوة والصبر جزء من الحياة اليومية. من هناك أخذت ثباتي”، تقول بثقة.
وتضيف “تعلمتُ من أهل بلدتنا كيف يواجهون الصعاب بثبات، وكيف يُحولون التحديات إلى دروس وعبر. هذا الجوّ، المليء بالعزيمة والإصرار، غرَس في داخلي القدرة على مواجهة الصعاب والصمود أمام أي عقبة، وجعلني أكثر ثقة بنفسي وقوة في رحلتي”.
ولادة الكتاب: حين يتحوّل الضعف إلى مرآة
فكرة كتابها لم تولد فجأة، بل كانت امتداداً لرحلة اكتشاف الذات. تقول: “أردتُ أن أفهم نفسي… وأن أترك شيئاً لمن يمرّ بطريقي نفسها، أردتُ أن أشارك كل من يواجه صعوبات مماثلة رسالة أمل وقوة. ويتضمن الكتاب مزيجاً من ذكرياتي الشخصية، أفكاري وتأملاتي، وصورتي أمام العالم وكيف تعلمت التعايش مع التأتأة والتغلب على المخاوف، إضافة إلى نصائح وإلهام لكل من يشعر بالاختلاف أو التحدي”.
عنوانٌ يتلعثم… ليقول الحقيقة كلّها
كان عنوان كتابها متعمّداً، متقطّعاً، صارخاً كأنه يركض خلف نفسه: “أنا هنا… مختلف… لكن قوي”. لقد أرادته صدى لصوتها، مرآة للتجربة، ودرْباً يلفت القارئ إلى أن الصوت قد يتعرّج… لكنه لا يختفي، . هو عنوان يصرخ: “أنا هنا، مختلف، لكن قوي، ويعبّر عن رحلتي بكل صراحة وجرأة”.
وتصف لحظة خروج الكتاب من المطبعة كأنها ولادة ثانية: دهشة، فخر، وخفقان قلب حقيقي.
وفي حفل التوقيع، حين رأت الناس يمسكون كتابها، شعرت أنها انتصرت، لا على التأتأة، بل على الخوف منها. كان المشهد كلّه أشبه بعودة الصوت إلى أصله،”كأن حلماً طال انتظاره أصبح واقعاً بين يديّ، وكأن كل تحدٍ واجهته أصبح جزءاً من قصة نجاحي”.
رسالتها الأخيرة: صوتٌ يحب نفسه… ويحب العالم
قبل أن تختم حديثها، تقول كارين جملة تشبه بيتاً شعرياً: “أنا أحب صوتي… وأحب ابتسامتي… وأحب تأتأتي، لأنها جزء من هويتي وقوتي، وجعلتني أتعلم الصبر والثقة بالنفس والإصرار على المضي قدماً”.
كارين تفهم أن كل صوت مهما كان إيقاعه يحمل جماله وصدقه، وأن الاختلاف ليس عيباً، بل بصمة لا تشبه أحداً.
رسالتها لكل من يحمل تلعثمه كحملٍ ثقيل: “تقبّل نفسك، دع صوتك يخرج كما هو، واعلم أن الروح حين تتماسك… لا يهم إن كان الصوت يتلعثم”.
والجدير بالذكر، أن التأتأة أو التلعثم (بالإنجليزية: Stuttering) هي اضطرابٌ يُؤثر على طلاقة الكلام، حيث يُواجه المصاب صعوبة في التحدث بسلاسة، على سبيل المثال يتوقف فجأةً أثناء الكلام عدة مرات، أو يُكرر بعض الكلمات أو الأحرف من دون قصد، أو يُطيل نطق أحرف معينة أثناء الحديث.
عبدالله ذبيان-الميادين
المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع "صدى الضاحية" بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و"الموقع" غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك.



