متفرقات

تعفّن الدّماغ في العصر الرقمي… هل يدفعنا “الإنترنت” نحو “قاع العقل”؟

في نهاية عام 2024، اختار قاموس أكسفورد مصطلح “تعفّن الدماغ “(Brain Rot) ليكون كلمة العام، بعد تصويت شارك فيه أكثر من 37 ألف شخص، إثر ارتفاع استخدام المصطلح بنسبة 230% مقارنة بعام 2023. ويعكس هذا الاختيار تنامي القلق والوعي العالمي بالمخاطر الناتجة عن الاستهلاك المفرط للمحتوى الرقمي السطحي، وتأثيراته المحتملة على الصحة النفسية والوظائف المعرفية، وعلى الإنتاجية والأداء في المهام الدراسية أو المهنية التي تتطلب تركيزًا وجهدًا ذهنيًا مستمرًا، خصوصًا لدى جيلي Gen Z (المولود بين 1995 و2009)، وGen Alpha (المولود بين 2010 و2025). ورغم حداثة استخدامه المعاصر، تعود جذور المصطلح إلى الفيلسوف الأميركي هنري ديفيد ثورو، الذي أشار إليه بسخرية في كتابه Walden (الحياة في الغابات) عام 1854، متسائلًا: « بينما تسعى إنكلترا إلى علاج تعفّن البطاطس، ألن يسعى أحد لعلاج تعفّن الدماغ؟ ». ومع تسارع وتيرة الاستهلاك الرقمي اليوم، تتجدّد المخاوف من إصابة العقول بظاهرة “التعفّن الرقمي”، وتحوّل المستخدمين إلى أسرى محتوى سريع وغير محفّز، يُضعف التركيز والتفكير العميق، ويهدّد القدرة على الإبداع والابتكار، ويقود إلى ما يشبه “قاع العقل”.

يعرّف قاموس أكسفورد “تعفّن الدماغ” بأنه تدهور عقليّ ونفسيّ ناتج عن الإفراط في استهلاك محتوى رقمي سطحي يفتقر للتحدي المعرفي. وتشير دراسات نفسية أعدّها باحثون، أبرزهم إلينا توروني وكريغ جاكسون، إلى ارتباط الظاهرة بضعف التركيز، وتراجع التفكير النقدي والإبداعي، وارتفاع القلق. ورغم غياب دليل قاطع على ضرر فيزيائي مباشر، يرى أندرو برزيبيلسكي، الباحث في جامعة أكسفورد، أن الظاهرة تعبّر عن التأثيرات السلبية للحياة الرقمية على الدماغ والذاكرة. وتشير دراسات علمية، منها بحث نشرته مجلّة Nature Communications (2022)، إلى أن قضاء وقت طويل على تطبيقات مثل “تيك توك” و”سناب شات” يضعف الذاكرة قصيرة الأجل بنسبة تصل إلى 30%. وبيّنت أبحاث “إمبريال كوليدج لندن” أن التعرّض المستمر للمؤثرات الرقمية يشوّه الترددات الدماغية، ما يسبّب “ضبابية ذهنية”. كما أشارت دراسات بهارفارد، وأكسفورد، و King’s College London إلى أن الإدمان الرقمي قد يسبب انكماش المادة الرمادية في الدماغ، ويؤثر على التركيز والذاكرة. ووفقًا للدكتورة غلوريا مارك، تراجع متوسط التركيز على أي شاشة من دقيقتين ونصف عام 2004 إلى 47 ثانية مؤخرً

لا تقتصر آثار “تعفّن الدماغ” على القدرات الإدراكية فحسب، بل تمتد إلى الصحة النفسية، إذ يعاني الأفراد الذين يفرطون في استهلاك المحتوى الرقمي السطحي من استنزاف ذهني، ومن مشاعر القلق والتوتر والذنب نتيجة إهدار الوقت دون جدوى، ويتفاقم هذا الشعور بما يُعرف بـ”الفراغ الرقمي” (Digital Void)، حيث يولّد التصفح العشوائي الطويل المعروف بِسلوك “التمرير الزومبي” (Zombie Scrolling)، والانشغال المتكرر بالمحتوى غير المفيد، إحساسًا داخليًا بعدم الإنجاز وفقدان الهدف. كما يسهم التعرّض المستمر للأخبار السلبية والمثيرة للجدل أو ما يعرف بسلوك “دووم سكرولينغ (Doomscrolling)، إلى جانب الإرهاق الرقمي (Digital Fatigue) الناتج عن الاستخدام المفرط للشاشات، في زيادة التوتر واضطراب المزاج والإجهاد الذهني، ويرفع احتمالات القلق والاكتئاب، مما ينعكس سلبًا على الاستقرار النفسي. كذلك، يُؤدّي التضليل المعرفي (Cognitive Dissonance) الناتج عن تضارب وتناقض المعلومات على الإنترنت، إلى إرباك المستخدمين وإضعاف قدرتهم على التحليل واتخاذ القرار. وتتزايد حدّة الظاهرة مع شيوع التركيز السطحي (Shallow Focus)، نتيجة الاعتماد على المحتوى القصير والسريع، الذي يُقوّض مهارات التعمّق الفكري.

وبالتوازي مع التأثيرات المعرفية والنفسية، يؤدّي الإفراط في استخدام العالم الافتراضي إلى تراجع التفاعل الاجتماعي الواقعي، ما يؤدي إلى تدهور المهارات والعلاقات الإنسانية، ويُعزز شعور العزلة والانفصال عن الواقع. فالحياة الرقمية، رغم مظاهر التواصل الظاهري، تتحوّل إلى وهم تواصلي يُخفي ضعف الاندماج الفعلي في المجتمع. وفي هذا السياق، يشهد لبنان، كغيره من البلدان العربية، ارتفاعًا في استهلاك المحتوى الرقمي، خاصة بين الشباب، إذ يتجاوز الاستخدام اليومي للمنصات مثل “تيك توك”، و”إنستغرام”، و”سناب شات” أربع إلى خمس ساعات وفق تقديرات غير رسمية، وسط غياب برامج التوعية الرقمية في المؤسسات التربوية. ويثير هذا الواقع مخاوف بشأن تأثيره على الصحة النفسية والقدرات الإدراكية، في وقت يحتاج فيه لبنان إلى طاقات شابة واعية تواكب التحوّل الرقمي بفعالية ومسؤولية.

الديار

المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع "صدى الضاحية" بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و"الموقع" غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى