تصدرت هيئة تحرير الشام المشهد في سوريا، كقائدة للمرحلة الانتقالية، لكن الاسئلة المطروحة، هل هي فعلا من تقود المرحلة أم أن هناك، خلف الكواليس من يحرك المشهد ككل، والهيئة بشكل خاص؟ .
لا شك بأن الهيئة بزعامة ابو محمد الجولاني، تتصدر المشهد تنفيذيا وتقنيا، مع تأمين تركي للإمدادت اللوجستية والاستخبارية والسياسية اضافة إلى التخطيط. لكن حقيقة الامر ان تركيا هي بدورها ليست الا لاعبا اقليميا في سوريا وليست اللاعب الاكبر، أوكلت اليها، مهمة التحكم بقيادة الهيئة والفصائل، لتنفيذ مخطط لا يطال سوريا فحسب، بل المنطقة ككل، وفقا لمشروع الشرق الاوسط الامريكي الاسرائيلي الجديد الذي يعمل عليه منذ عقود.
خيوط اللعبة السورية الان بيد الولايات المتحدة بشكل رئيسي، فهي تحتل الجزء الشمالي الشرقي من سوريا وتتحكم بقوات سوريا الديمقراطية (ذات الغالبية الكردية) المدعومة امريكيا.
اللاعبون الصغار في سوريا
تعتبر هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها وقوات سوريا الديمقراطية، و”داعش” الارهابية، فضلا عن مكونات سورية اخرى، لاعبين صغار، تحركهم دول خارجية لها مصالح متقاطعة ومتناقضة في سوريا في الان نفسه.
هذه الجماعات مقيدة بثوابت المصالح الخارجية، من خلال التمويل المالي واللوجستي والمحاصرة الجغرافية.. فهيئة تحرير الشام لا تخفي تركيا ومن خلفها قطر، احتضانها ورعايتها ومساعدتها العسكرية واللوجستية حتى بقيت في شمال سوريا، ومن ثم تمكنت من السيطرة على الحكم.. ولكن الهيئة لا تستطيع مخالفة تركيا، لانها الباب والمنفذ اللوجستي والتمويلي لها. فمع اي خلاف ربما تقفل تركيا حدودها امام الهيئة وحلفائها، بما يؤدي الى انهيارها وخلق فصائل جديدة بعقائد مشابهة كما كان حال الانتقال من النصرة الى هيئة تحرير الشام.
تتقاطع مصالح تركيا الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الامريكية، فهما شريكان اسراتيجيان لا سيما على المستوى العسكري وحلف الاطلسي.. وكذلك فان العلاقات الاسرائيلية مع انقرة وواشنطن، ايضا علاقات استراتيجية، بدليل ان ما جرى في غزة من إبادات ومجازر وجرائم اسرائيلية لم يقطع العلاقات التركية الاسرائيلية حتى الان.
قوات سوريا الديمقراطية “قسد” تعيش على التمويل والدعم الامريكي. ويرتبط قرارها، بشكل مباشر بالارادة الامريكية.
وتشكل قسد الخنجر الامريكي في الخاصرة التركية والخطر الداهم الذي يعتبر الشريان الرابط بين حزب العمال الكردستاني في تركيا (الارهابي تركياً)، الذي يقاتل من اجل اقامة دولة مستقلة في تركيا وسوريا وايران والعراق. وتستفيد واشنطن من قسد في “زكزكة” تركيا عند الحاجة مع الابقاء على التحكم بخيوط اللعبة، لابقاء تركيا تحت السيطرة الامريكية
اما الجماعات الموجودة في درعا فهي خليط، تتحكم به اكثر من دولة لا سيما الاردن والولايات المتحدة وتركيا و”اسرائيل”. وهذا يعني ان قيود هذه الجماعات، ليس في يدها خصوصا وان كلا منها يحتاج الى امداد لوجستي وعمق جغرافي مجاور.
الطائفة الدرزية تنقسم فيما بينها حول الاهداف التي تسعى اليها.. فقسم منها يريد ان يلتحق بدروز “اسرائيل”، اي ان ینضوي تحت الاحتلال الاسرائيلي، وقسم لديه اهداف اخرى، سواء على المستوى الحكم الذاتي او التمسك بهويته الوطنية والعروبية التي ناضل من اجلها سلطان باشا الاطرش البطل السوري الدرزي التاريخي.
الطائفة العلوية وهي مكون سوري كبير، وبعد انهيار سلطة الرئيس بشار الاسد، وجد نفسها يتيما محاصرا من كل حدب وصوب. من المبكر جدا الحديث عن توجهات اقليمية او دولية لهذا المكون، خصوصا وان الحصار المطبق عليه، يبعد اي دولة لا سيما ايران، من امكانية تقديم الدعم والمساندة له.
لكن هل تستفيد منه الولايات المتحدة لاحقا باعتباره الحلقة الاضعف الان في سوريا.
فاذا ما تتبعنا، خيوط اللعبة في سوريا، نجد تشعباتها ميدانيا على الارض، لتمر بقوى اقليمية وعلى رأسها تركيا و”اسرائيل” وقطر، لتنجمع في النهاية في اليد الامريكية.
مخاوف اللاعبين الاقليميين
اكبر المخاطر التي تتخوف منها دول الجوار السوري، هي ان يتمدد نفوذ الاخوان المسلمين اليها.. فالاردن اكبر المتخوفين بسبب وجود شعبية كبيرة للاخوان في الاردن، يلي الاردن مصر التي ترأسها في العام 2012 رئيس اخواني هو محمد مرسي لنحو عام، ثم تم عزله عبر الجيش المصري. وهو كان من اكبر الداعمين للمعارضة السورية ضد الرئيس بشار الاسد.
بعض اللبنانيين القريبين من عقائد الحكام الجدد في سوريا، احتفلوا بوصولهم الى دمشق، وذهبوا الى دمشق مبايعين الجولاني.
تنظيم الاخوان المسلمين الدولي الذي وصلت طلائعه الى حكم دمشق، مرفوض من قبل السعودية والامارات والبحرين والكويت ودول عربية افريقية وعالمية.. وبعض الدول العربية تضعه على لوائح الارهاب..
الموقف العربي هذا سينعكس بالتأكيد، على واقع مستقبل الحكم الاخواني لدمشق، بما يعني ان الدعم العربي والتمويل وغيرهما لسوريا، لن يتوفرا دون الشروط العربية، وابرزها، المشاركة العامة في الحكم ونوعية النظام المقبل، وعدم الاستفراد الاخواني بالسلطة، فضلا عن الدور الذي يجب ان تلعبه هذه الدول ميدانيا في سوريا عبر دعم شرائح توفر لها الارضية للتحرك وحفظ المصالح عند اللزوم.
لكن في هذه النقطة ايضا، فان القرار في منح الادوار في الساحة السورية، يبقى ايضا، للمدير الامريكي.. الذي تجتمع بيده خطوط اللعبة التي خطط لها منذ سنوات.
خلاصة القول ان سوريا بما حصل فيها حتى الان، هي في قبضة الامريكي والاسرائيلي اولا، ثم في قبضة الوكلاء الاقليميين، وتحديدا تركيا وقطر ثانيا، ومن ثم المنفذين الفصائل التي سيطرت على سوريا.
هل يمكن تغيير الواقع هذا؟
بالتأكيد، هناك شرائح كبيرة في سوريا لم تقل كلمتها بعد، وهي شرائح قوية يسارية وطنية علمانية، وايضا هناك فصائل ضمن تحالف هيئة تحرير الشام (الفصائل تتجاوز السبعين فصيلا)، لها مشارب وعقائد اسلامية مختلفة عن فكر الاخوان، تحمل عقيدة تحرير فلسطين باعتبارها قضية مقدسة. وهذه المكونات اذا ما وجدت ان دورها مهمشا، فان كلمتها ستكون قوية، خصوصا، اذا ما استفردت الهيئة بالحكم، على غرار ما فعل الاخوان في مصر عام 2012. وهذا حتما سيشكل خطرا على من يستفرد بالحكم وعلى الدول التي تقف خلفه، لان هناك دولا اقليميا عالمية مؤثرة تتربص .
فاذا ما طرأت تحولات، لا سيما ما يعتقده البعض عن حرب اهلية محتملة، فان ذلك سيقلب الموازين، ويغير من اتجاه المخطط الامريكي، الهادف الى تقسيم سوريا والحاقها بعمليات التطبيع، ومخطط الشرق الاوسط الامريكي الاسرائيلي.