يكثر الحديث عن قرب موعد صدور قانون عفو عام جديد عن مجلس النواب اللبناني يخلي سبيل معظم السجناء المحكومين الذين ثبت ارتكابهم جرائم في لبنان.
وبما أن مباني السجون غير مؤهّلة وتعاني من اكتظاظ خانق (خصوصاً بعد نقل نزلاء سجون تبنين وبنت جبيل ومرجعيون والنبطية التي تضرّرت بسبب العدوان الإسرائيلي)، وبما أن السجناء يعانون من بطء في البتّ في ملفاتهم القضائية ومن نقص في الرعاية الصحية وفي برامج إعادة التأهيل، وبما أن الحكومة لم تطلق حتى اليوم ورشة جدّية لإصلاح السجون رغم الإشارة الى ذلك في معظم البيانات الوزارية منذ حكومات ما قبل الطائف، يتبيّن أن السبيل الوحيد لتحسين أوضاع حقوق الإنسان في السجون بشكل جذري يأتي من خلال خفض واسع وسريع لنسبة الاكتظاظ التي بلغت أخيراً 330%.
ولا شك في أن صدور قانون عفو عام عن مجلس النواب يشكّل الطريق الأسرع والأسهل لخفض هذا الاكتظاظ.
لكن، هل يمكن أن يؤثّر العفو العام على النظام العام وعلى القضاء وعلى نسب الجرائم ووتيرتها؟
لا بد من التذكير أولاً بأن العدد الأكبر من الأشخاص المحتجزين في السجون اللبنانية موقوفون احتياطياً وقيد المحاكمة.
وبالتالي هم، بحسب موجبات الدستور اللبناني، أبرياء حتى تثبت إدانتهم بعد محاكمتهم ومنحهم الحق بالدفاع عن أنفسهم واستئناف الحكم بعد صدوره.
ولا يفترض، منطقياً، أن يشمل العفو أشخاصاً أبرياء، علماً أن قانونَي العفو اللذين صدرا عن مجلس النواب بعد جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 أسقطا «دعاوى الحق العام والملاحقات والمحاكمات والتحقيقات العالقة»، وجاء في النص التشريعي أنه «لا يجوز إحالة أي من القضايا أو الدعاوى المشمولة بالعفو على أي مرجع قضائي آخر.
وتنتفي حكماً صلاحية جميع المحاكم بإعادة المحاكمة أو الطعن في الدعاوى والقضايا».
ويؤكد ذلك ليس فقط أن إصدار قوانين العفو عن مجلس النواب يشكّل تعطيلاً لتنفيذ العقوبات التي فرضتها المحاكم المستقلة على أشخاص ثبت ضلوعهم في جرائم خطيرة، بل تعطيلاً للإجراءات القضائية ولمسار المحاكمات، ويكرّس تدخل السلطتين التشريعية والإجرائية في عمل القضاء فيما يشكّل تجاوزاً للنص الدستوري الذي جاء فيه أن «القضاة مستقلّون في إجراء وظيفتهم وتصدر القرارات والأحكام من قبل كل المحاكم وتُنفّذ باسم الشعب اللبناني» (المادة 20).
منذ إعلان استقلال لبنان عام 1943 صدرت عشرات قوانين العفو إلى أن أصبح اليوم صدور العفو عادة ينتظرها، لا بل يطالب بها، السجناء باستمرار.
كيف لا وقد صدرت قوانين عفو عن أشخاص ارتكبوا جرائم خطيرة جداً أدّت إلى أذيّة عدد كبير من الناس وبشكل متمادٍ خلال سنوات الحرب الأهلية، ولم تؤسّس لجان للحقيقة والمصالحة ولم تكشف المقابر الجماعية، وبقي مصير آلاف المخفيّين قسراً خلال الحرب مجهولاً بينما يسرح ويمرح المستفيدون من العفو ويتولّون مراكز مهمة في الدولة.
قوانين العفو تصدر في لبنان بشكل دوري شبه منتظم وتُستخدم من قبل السلطة السياسية الحاكمة في عملية المحاصصة ولكسب الشعبية.
لكن لا بد من التنبه إلى احتمال بعض التأثيرات السلبية الناتجة عن العفو، ومنها:
– ارتفاع نسبة الجريمة من خلال احتمال عودة المُعفى عنهم إلى ممارسة أعمالهم الجرمية بسبب انسداد الأفق وعدم اكتساب المُعفى عنه مهارات تؤهله للعمل بشكل قانوني في ظل عدم وجود برامج إعادة تأهيل في السجون؛
– تعطيل نظام العقوبات ومفاعيل الردع التي يُقصد منها في قوانين العقوبات ثني الناس عن ارتكاب الجرائم من خلال وصف العقوبات التي ستُطبق على جميع المرتكبين من دون أي استثناء؛
– هدر المال والطاقات وضرب معنويات القضاء حيث إن القاضي والمستشارين والمساعدين القضائيين ورئيس وموظفي قلم المحكمة يعملون لأشهر طويلة ولسنوات أحياناً لمتابعة القضايا الجنائية وصولاً إلى إصدار الحكم بينما يُلغى كل هذا الجهد بشطبة قلم البرلمان؛
– تكريس نظام المحاصصة واعتماد الشعبوية في اتخاذ القرارات وإصدار التشريعات.
أما بشأن السجناء السوريين في لبنان، فلا يمكن قانونياً في الوقت الحالي إرسالهم إلى سوريا لعدة أسباب، أبرزها عدم وجود اتفاقيات للتعاون القضائي والأمني مع السلطات السورية الحالية (انتهت مفاعيل الاتفاقيات السابقة بعد تغيير نظام الدولة في سوريا)، ولا بد من انتظار تبلور الأمور وقيام دولة في دمشق تعمل بموجب دستور جديد وقوانين حديثة.
كما أن الوضع في سوريا حالياً لا يسمح بتنظيم السجون وأماكن التوقيف فيها، وبالتالي لا مكان محدداً حتى الآن لمتابعة تنفيذ السجناء السوريين المحكومين عقوبتهم السجنية في بلدهم.
وإذا قرّر المشرّع اللبناني إصدار قانون عفو يشمل السوريين فلا توجد أيّ ضمانات بأنهم سيعودون إلى بلدهم بعد إخلاء سبيلهم، خصوصاً في ظل تفلّت الحدود.
فما هو الحلّ؟
في ظل النقص في الموارد لإصلاح القضاء وتحسين أوضاع السجون، قد يكون الحل هو التوافق على إصدار قانون عفو مشروط لبعض الجرائم بالنسبة إلى السجناء المحكومين بغضّ النظر عن جنسيتهم؛ وإخلاء سبيل بعض السجناء الموقوفين ووضعهم تحت المراقبة القضائية بعد تفعيلها.
ويُفترض استثناء المُدانين بجرائم إرهابية ومرتكبي جرائم القتل والجنايات المقتَرَفة ضدّ الجيش اللبناني ومؤسسات الدولة اللبنانية من قانون العفو العام، لأن إخلاء سبيلهم قد يشكّل خطراً على الأمن والاستقرار.
أما الموقوفون احتياطياً بجرائم بسيطة وغير المكرّرين فيمكن إخلاء سبيلهم وإلزامهم بمراجعة دوائر الشرطة القضائية يومياً (استناداً إلى المادة 111 من قانون أصول المحاكمات) للتأكد من أنهم لن يعودوا إلى ارتكاب أفعالهم الجرمية، وإلزامهم بالحضور إلى الدوائر القضائية في المواعيد المحدّدة. وقد يؤدي صدور قانون العفو إلى خفض الاكتظاظ في السجون إلى حدّ ما.
أما «الحلول» التي يُحكى عنها اليوم والتي تؤدي إلى إفراغ السجون من الموقوفين والمحكومين السوريين وترحيلهم إلى بلادهم فلا تبدو واقعية.
ويبقى اقتراح احتساب السنة السجنية 6 أشهر بدل 9 أشهر والذي يهدف إلى خفض مدة العقوبة السجنية، إذ يُفضّل عدم السير به والاحتكام حصراً إلى لجان تخفيض العقوبات مقابل حسن السلوك لأن ذلك يساهم في ضبط الأمن وفرض النظام في السجون حيث يشكّل الاكتظاظ تحدياً صعباً أمام ضباط ورتباء وعناصر قوى الأمن الداخلي المكلّفين بحراسة السجون وإدارتها.