مقالات

السلام الأميركي في العراق: انقلاب وغزو واحتلال

في تقديمه كتاب جاكلين إسماعيل وطارق إسماعيل وليزلي ماكدونالد “السلام الأميركي: حرب أميركا الأبدية على العراق”، الصادر مؤخراً عن Palgrave Macmillan، يُذكّر البروفيسور ريتشارد فولك، أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية في جامعتي برنستون وكاليفورنيا ومقرر الأمم المتحدة السابق لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، بفشل حكومة الولايات المتحدة في استخدام دبلوماسيتها لإنهاء حرب أوكرانيا، واستمرار مشروعها لتحقيق نصر جيوسياسي على روسيا على حساب شعبي أوكرانيا وروسيا، ويذكر باستمرار التواطؤ الأميركي النشط مع الإبادة الإسرائيلية لشعب فلسطين في غزة والضفة الغربية.

هذا الكتاب تذكير قاتم بسابقة حرب أميركا على العراق، إذ تبنت الولايات المتحدة علناً مساراً إجرامياً في غزوها واحتلالها الطويل للعراق بدءاً من عدوان “الصدمة والترويع” غير المبرر، وبلغ ذروته في مشروع “بناء الدولة” الذي جلب بدوره تنظيم داعش إلى المنطقة. إنه فشل جيوسياسي هائل على مدى أكثر من عقد من الاحتلال و”بناء الدولة” المزعوم بالعراق، تم تصويره ببراعة، مذكراً بحرب العراق وعواقبها المروعة، وملقياً الضوء على النفي الحالي لأدنى معايير اللياقة في سياق التفاعل البشري.

بكثير من البصيرة والمعرفة والحكمة، يقدم هذا الكتاب القصة المعقدة لدور أميركا في العراق، فيما يجد فولك نفسه مسكوناً بسؤال معرفي بسيط: لماذا ترفض أميركا كأمة وشعب وجنس أن تتعلم من الإخفاقات المأساوية الماضية؟

رؤية إمبريالية

تأتي الإشارات مؤخراً إلى حرب أميركا على العراق (2003) في الغرب غالباً من مصادر سياسية مناهضة للحرب، وعازمة على التذكير الصارم بأنّ غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022 كان متوقعاً -في أكثر سماته إثارة للاعتراض- من خلال غزو أميركي بريطاني أعقبه احتلال طويل مثير للجدل للعراق، فيما يحاول التيار الرئيس في الغرب محو تجربة أميركا من الذاكرة الجماعية.

إن الذين يستشهدون بالعراق كسابقة ذات صلة بأوكرانيا يقدمون نقداً مبرراً للطبيعة الإمبريالية للسياسة الخارجية الأميركية التي تَسخَر من نداءات القانون الدولي الصريحة وميثاق الأمم المتحدة وتسخرها لحشد المعارضة الدولية لروسيا فقط، في حين تُعبئ الدعم العالمي للعقوبات وشحنات الأسلحة والتبرعات الضخمة والمساعدات الاقتصادية لكييف.

إن تبني مثل هذه الرؤية الإمبريالية المجرّدة وغير التاريخية والمتمركزة أوروبياً، مهما كانت مفيدة، يأتي بثمن باهظ! فالعراق يفقد حقيقته الأساسية كدولة يسكنها أناس تحملوا محن الطغيان والحرب والتدخل الأجنبي والاحتلال المُطوّل.

إن رفض الولايات المتحدة ممارسة ما تبشر به عندما تتعامل مع الجنوب العالمي، وخصوصاً في بلدان الشرق الأوسط، تأكد بوضوح من خلال تواطؤها في هجوم الإبادة الإسرائيلية على غزة، ويظل سابقة مهمة تتعلق بالنقاش السياسي حول أوكرانيا، لكنه بعيد جداً عن سرد القصة الكاملة لمحنة العراق وتاريخه الحديث المحزن على مدى عقود مديدة، وبلغت ذروتها مع حرب 2003 العدوانية.

إن وضع الحرب في سياقها التاريخي ورفض محو تأثيرها الرهيب في السكان والحياة المدنية بالعراق من الوعي السياسي يجعل من هذا العمل لائحة اتهام قوية للسياسة الخارجية الأميركية. إن الفهم الذي يكتسبه هذا التحليل أعمق كثيراً من التقييمات السطحية التي تستند إلى نموذج بسيط من “الغزو والاحتلال”. يدمج هذا العمل بشكل قيم بين الاهتمامات السياسية والاقتصادية والاهتمام الجاد بالأبعاد الاجتماعية والأخلاقية والدينية وحتى الفنية والفلسفية لتراث العراق الثقافي الاستثنائي. هذا التراث هو الذي تحطم بسبب التدخل الأميركي في العراق في سياق تفتيت الوحدة السياسية والثقافية للشعب العراقي.

البداية الحقيقية

تمكن هذا الكتاب القصير ولكن العميق من النظر في الكوارث التي حلت بالعراق والسلوك المربك والشرير المتضمن في هذا النمط من الاستخدام الأميركي المختل للقوة الصلبة والناعمة على مدى ستة عقود، ووضع التكتيكات والاستراتيجيات الجيوسياسية الأميركية في سياقها الصحيح بطريقة تلقي الضوء على مجموعة من القضايا المعاصرة الأخرى المثيرة للقلق في مختلف أنحاء العالم.

نجح المؤلفون في تفسير التفاعل بين طموحات الهيمنة العالمية والإقليمية الأميركية بطرق تفضي إلى سرد متعمق للأحداث المأساوية التي دمرت العراق، وامتدت عبر حدوده لتسبب أشكالاً مماثلة من الضيق في أماكن أخرى من المنطقة. وتظهر الترابطات بين مصير العراق ومصير الشرق الأوسط ككل، ونقف على رواية مستنيرة عن الأسباب التي تجعلنا لا نتصور تأثيرات الأجندة الإمبريالية الأميركية باعتبارها مجرد عدوان يتبعه احتلال مخصص لمشاريع (حميدة) لـ”بناء الدولة”، والتي تتظاهر بالسعي إلى الحكم الدستوري والدينامية التنموية.

لا ينبغي أن تبدأ دراسة مأساة العراق المعاصرة، كما في أغلب التقييمات التي تركز على الحربين في عامي 1991 و2003، وما ترتب عليهما من عقوبات قاسية وعواقب فوضوية، بل ينبغي أن ننظر إلى دوامة الأحداث التي بدأت عام 1963.

إن نقطة البداية الحقيقية، والتي تم تجاهلها أو قمعها غالباً، هي الانقلاب الذي سهلته وكالة المخابرات المركزية الأميركية عام 1963، والذي أسقط حكومة عبد الكريم قاسم القومية، وجاء بقيادة حزب البعث الدكتاتوري القمعي، وآلت رئاسته في النهاية إلى صدام حسين.

وكالة الاستخبارات المركزية

إنَّ التاريخ الشخصي لأحد مؤلفي الكتاب، طارق إسماعيل، في العيش بالمنفى منذ هذا الانقلاب والندوب التي خلفتها أحداث مضى عليها 6 عقود، والتي بلغت ذروتها في اعتقال ومذبحة ما لا يقل عن 5000 مثقف وناشط سياسي تقدمي عراقي، يضفي أصالة وأهمية على هذه الأحداث التي لا يكاد يتذكرها أهل الاختصاص، ناهيك بالرأي العام.

يُذكّر انقلاب البعث في العراق عام 1963 بانقلاب 1953 في إيران، والذي أطاح حكومة مُصدّق بمساعدة وتشجيع وتدبير سري من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، إذ سبق انقلاب إيران في العديد من تفاصيله انقلاب العراق الذي وقع بعد 10 سنوات. ففي إيران، أعيد الشاه إلى عرش الطاووس، والأهم من ذلك، أعيدت المِلكية الأجنبية لصناعة النفط الإيرانية، واستفادت شركات الطاقة الأميركية الكبرى من هذا الانقلاب.

تم إخفاء الطابع الحقيقي لهذه الأحداث في كلتا الدولتين الرئيسيتين المنتجتين للنفط بورقة توت من مبررات راجت في فترة الحرب الباردة آنذاك وزعمت إنقاذ هذه الدول من السيطرة الشيوعية من خلال تهميش وتشويه سمعة النفوذ السوفياتي الماركسي الاشتراكي المفترض أن يُقوّض المصالح الاستراتيجية الغربية بالشرق الأوسط، فضلاً عن تهديد هذه الدول بمستقبل ستاليني.

قللت الدعاية الحكومية التي نشرها الإعلام الغربي الخاضع أيديولوجياً من أهمية الدافع الاستراتيجي الحقيقي وراء هذه الأحداث السياسية التخريبية، والذي كان يتلخص في إبقاء احتياطيات الطاقة بالمنطقة تحت السيطرة الغربية (الآمنة) مع تكليف صناعة النفط الأميركية بالمسؤولية عنها.

وهكذا، تم تجاهل حقوق الدولة السيادية في تقرير المصير، وعانت الشعوب نتيجة لذلك، كما تم تجاهل الادعاءات بأن النتائج تعكس تحركات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وليس ثورة القوى القومية. وبعد سنوات فقط، تم تأكيد الدور الفعّال لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية على نطاق واسع. وقد صور المنطق العام الأولي تلك الأحداث رفضاً داخلياً مناهضاً للشيوعية أو لقادة هستيريين أو طغاة، وللحديث بقية.

الميادين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى