مع تراجع أصوات الحرب الكبرى على لبنان، ورغم أن المقاومة لا تزال في حالة استنفار لمواجهة احتمال أن يستأنف العدو الحرب، وخصوصاً أنه لم يتوقف عن خرق اتفاق وقف إطلاق النار، يبدو أن حزب الله دخل مرحلة جديدة على مستويات عدة.
ويعكس خطاب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم، أول من أمس، جانباً من هذه المرحلة، من دون أن يعني ذلك تغييراً في الثوابت أو الأهداف.
جمهور المقاومة، كما الحلفاء والأعداء، الذين يراقبون باهتمام ما يقوله الشيخ قاسم، بدأوا يتعايشون مع تغيير، ويبدو أن الشيخ قاسم نفسه يساعد الجمهور والحلفاء والأعداء على التكيّف مع المرحلة الجديدة.
ولذلك، شكّل خطاب السبت نقطة انطلاقة جديدة، تعكس جانباً من آلية التفكير لدى قيادة حزب الله.
قد يكون مستغرباً للبعض أن قاسم دخل مباشرة في معالجة القضايا التي يعدّها الحزب مفصليّة في هذه المرحلة.
وهو عالجها بطريقة مباشرة، ومدروسة، ولم يفتح المجال أمام أي نوع من الإطالات، وربما كان عملياً بصورة كبيرة، وليس ناقصاً للعواطف كما يفترض كثيرون.
لكن الخطاب كان مناسبة ليعرف جمهور الحزب والآخرون مركز الاهتمام الآن، ولو أن قاسم لم يكن، في خطاب السبت، في وارد الإجابة عن كل الأسئلة التي تطرح اليوم، سواء بما خص المصير النهائي لاتفاق وقف إطلاق النار، أو الآلية التفصيلية الخاصة بعملية إعادة الإعمار، أو الموقف من تفاصيل كثيرة تتعلق بالحدث السوري الكبير.
في الجانب الأول، كان الشيخ قاسم واضحاً في القول إن حزب الله يفهم اتفاق وقف إطلاق النار كما هو، بعيداً عن أي تفسيرات يريدها العدو أو حتى بعض الداخل.
وقال بصورة حاسمة «إن العدو هو من طلب الاتفاق، وعندما جاء (عاموس) هوكشتين، حمل معه نصاً أعدّته واشنطن بالاتفاق مع إسرائيل».
وأوضح اأن الحزب وضع كما الآخرين ملاحظات على الاتفاق، وتمّ التوصل أخيراً الى صيغة يقبل بها الحزب. وكان قاسم واضحاً ودقيقاً في قوله إن الاتفاق جاء بعدما فشل العدو في تحقيق هدفه بالقضاء على المقاومة، وإن ذلك حصل بفعل «الصمود الأسطوري للمقاومين» و«الضربات القاسية التي أصابت العدو جيشاً ومستوطنين».
وأعلن قاسم التزام الحزب بتنفيذ «اتفاق هدفه وقف العدوان، وليس إنهاء المقاومة، وهو اتفاق تنفيذي مستمد من القرار 1701 ويرتبط بجنوب نهر اليطاني حصراً، بحيث تنسحب إسرائيل إلى الحدود وينتشر الجيش اللبناني كسلطة وحيدة تحمل السلاح في هذه المنطقة»، مؤكداً بوضوح أن «هذا الاتفاق لا علاقة له بالداخل اللبناني.
وكل القضايا الداخلية المتصلة بالمقاومة والدولة والجيش ووجود السلاح تحتاج إلى حوار ونقاش، وهذا أمر يخصّنا نحن كلبنانيين».
لكن الشيخ قاسم وجّه تحذيراً مبطناً الى العدوّ، وإن كان قد رمى بالمسؤولية على الأطراف الراعية للاتفاق، بالقول: «لقد صبرنا خلال هذه الفترة على مئات الخروقات الإسرائيلية من أجل المساعدة على تنفيذ الاتفاق، وحتى لا تكون المقاومة عقبة أمام تطبيقه، ولنكشف للعالم أن العدو هو من يخرق الاتفاق».
وأضاف أن حزب الله «يضع المعنيّين أمام مسؤولياتهم، فالحكومة هي المعنيّة بمتابعة منع الخروقات الإسرائيلية، واللجنة المكلفة بمواكبة الاتفاق هي المعنيّة بمنع الخروقات. ونحن نتابع ما يحصل ونتصرف بحسب تقديرنا للمصلحة».
ومنعاً لأي اجتهادات أو التباسات، قال الشيخ قاسم بوضوح أيضاً إن «المقاومة مستمرة لأن الأعداء لن يقفوا عند حدّ، بل سيحاولون تغيير القناعات وسلب الخيرات.
ومواجهة الأعداء لا تكون بالكلمة والشكوى فقط، بل ما يجب هو توفير القوة المناسبة»، موضحاً «أن هذه المقاومة لا تربح بالضربة القاضية على عدوّها، بل تربح بالنقاط، يمكن أن تستمر المقاومة لعشر سنوات، وقد تستمرّ لـ 50 سنة.
وهي تربح أحياناً وتخسر أحياناً أخرى، وهذا أمر طبيعي في عمل المقاومة. المهم هو استمرارها وبقاؤها في الميدان مهما كانت إمكاناتها محدودة».
وأعاد الشيخ قاسم التركيز على موقع القضية الفلسطينية في مستقبل المقاومة قائلاً: «نحن قلنا ونعيد بأن فلسطين تشكل نقطة الارتكاز في هذه المنطقة، لأن العدو يتخذ من عدوانه على فلسطين نقطة ارتكازه لاحتلال المنطقة بأسرها، وخير لنا أن نواجهه مجتمعين، وكل بحسب إمكاناته وظروفه، وهذا أفضل من أن ننتظر حتى تأكلنا إسرائيل واحداً تلو الآخر».
من جهة أخرى، أكّد قاسم أن حزب الله «قويّ ويتعافى من جراحاته، ومن كان يأمل انتهاء حزب الله خاب أمله، ومن اعتمد على إسرائيل لترجيح قوته السياسية على الآخرين فاشل في قراءته وخياراته، ومن يرى أن حزب الله قوة فاعلة ومؤثرة في الحياة السياسية، فسيرى منّا ترحيباً وتعاوناً لمصلحة نهضة لبنان القوي والمستقرّ سياسياً واقتصادياً واجتماعياً».
وفي توجّه مباشر الى الوضع الداخلي، أعاد قاسم الحديث عن أولويات حزب الله في المرحلة المقبلة لجهة «تنفيذ الاتفاق في جنوب نهر الليطاني، وإعادة الإعمار بمساعدة الأصدقاء من الدول والمنظمات، وانتخاب رئيس للجمهورية في 9 كانون الثاني لتنطلق عجلة الدولة، والمشاركة في برنامج إصلاحي إنقاذي من أجل بلاد تقوم على المواطنة والمساواة تحت سقف القانون واتفاق الطائف، والدخول في حوار إيجابي حول القضايا الإشكالية».
أما بالنسبة الى الوضع في سوريا، فكان واضحاً أن قاسم تجنّب عن قصد كل الجدال حول حقيقة ما حصل في الأيام الأخيرة قبل سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، مختصراً الموقف بالقول: «نحن دعمنا سوريا لأنها في الموقع المعادي لإسرائيل، ولأنها ساهمت في تعزيز قدرات المقاومة عبر أراضيها للبنان وفلسطين، أما بعدما سقط النظام، فنحن لا يمكننا الحكم على القوى الجديدة إلا عندما تستقر وتتخذ مواقف واضحة»، معرباً عن أمل الحزب بأن «يكون خيار النظام الجديد والشعب السوري هو التعاون بين الشعبين والحكومتين في لبنان وسوريا على قدر المساواة وتبادل الإمكانات.
وأن يتشارك كل الأطراف في سوريا وكل المكونات في صياغة الحكم الجديد والمشاركة فيه، ونتمنى أيضاً أن تعتبر الجهة الحاكمة الجديدة إسرائيل عدواً، وأن لا تطبّع معها».
وعن التأثير المباشر للتغيّر في سوريا على قدرات المقاومة، قال قاسم من دون مواربة: «لقد خسر حزب الله في هذه المرحلة طريق الإمداد العسكري عبر سوريا، ويمكن مع النظام الجديد أن يعود هذا الطريق بشكل طبيعي، ويمكن أن نبحث عن طرق أخرى».