غداة كل حرب يشنّها العدو الإسرائيلي، تخرج بعض القوى اللبنانية لتلوم الضحية لا الجلّاد، حتى تكاد تتماهى مع العدوّ في تبرير المجازر والاعتداءات.
وهذه المرة، لا يبدو الأمر مختلفاً عمّا كان عليه غداة حرب تموز 2006، حين كشفت وثائق ويكيليكس ما كانت قوى 14 آذار تضمره للمقاومة وللبنان، بما في ذلك أداء قيادات تتحدث عن السيادة دور المخبر والواشي لدى الأميركيين. يومها، وبينما كان الناس يعودون الى منازلهم المدمرة، ولم يدفنوا شهداءهم، خرجت الأصوات نفسها لتُبشّر بهزيمة المقاومة وتطالب بنزع سلاحها. قبلها أدّى لقاء البريستول الدور نفسه، ممهّداً لصدور القرار 1559.
يبدو أن هذا اللقاء يشعل مرارةً في قلب رئيس حزب «القوات اللبنانية»، سمير جعجع، الذي يسعى عبثاً الى استعادة مشهد «البريستول» في معراب من دون أن ينجح مرتين في ذلك. فاختار يوم أمس أن يعقد اجتماعاً استثنائياً، بحضور تكتله النيابي وهيئته التنفيذية، ليسرد أمامهم خطة ما بعد انتهاء حرب تشرين 2024.
واستراتيجية «الحكيم» تتضمن ما فشل العدوّ في تحقيقه ميدانياً، وما تراجع عن المطالبة به في الاتفاق. فطلب «الحكيم» وضع خطة لتفكيك بنية المقاومة العسكرية شمال الليطاني، ناصحاً حزب الله بإعادة سلاحه الى إيران، مكرراً لازمة أن الدفاع عن لبنان ليس بالأمر الصعب.
نواب من التيار والحزب الاشتراكي ومستقلّون يرفضون أيّ أفكار تدعو إلى صدام بين الجيش والمقاومة ويسألون
عن كيفية ضمان التزام العدوّ باتفاق وقف إطلاق النار
جعجع المتمسك بالشرعية والقرارات الدولية، لم يأت على إدانة الخروقات الإسرائيلية في حين لم يجفّ حبر الاتفاق بعد، بل أتى على ذكرها في معرض إدانة حزب الله الذي «يتحجج» بهذه الخروقات ليحافظ على وجوده. ووفق ما قاله جعجع، يجب أن تترك معالجة تلك الخروقات للجيش والحكومة، مؤكداً أن الحزب هو من ارتكب «جريمة كبيرة بحق اللبنانيين عموماً، وبحق سكان البقاع والجنوب والضاحية الجنوبية خصوصاً، إذ كنا بغنى عن مقتل أكثر من 4000 لبناني، وعن تهجير من تهجّر، وتدمير ما تدمر».
هكذا، قرر جعجع التنكّر لكل البيانات الوزارية التي شرّعت عمل المقاومة، والتي وافق عليها وزراؤه سابقاً. وقرر أن سلاح المقاومة ليس شرعياً من الأساس، وطالب بتسليمه الى الجيش أو التمثّل بما فعلته «القوات» يوم حلّ الميليشيات بأن باعت سلاحها. ولكن جعجع رفع من سقف خطابه الى حدّ التهديد قائلاً: «أوعا حدا يفكّر إنو ممكن نرجع لمرحلة ما قبل 7 تشرين الأول 2023، ومستحيل أن نعود إلى ما كنّا عليه سابقاً. وإذا ما بدكن دولة، قولوا لنعرف حالنا شو بدنا نعمل… فالقرار واضح بحصر السلاح في يد الجيش وقوى الأمن والجمارك وشرطة البلدية. إذا بدّو الحزب في يعمل شرطي بلدي».
ولأن جعجع لم يصارح جمهوره بما يضمره حقاً وهو موقع رئاسة الجمهورية، فهو تهرّب مرة جديدة من الجواب عن سؤال حول رأيه بقائد الجيش جوزيف عون كمرشح لرئاسة الجمهورية، معتبرا أن السؤال في غير محله، لكن النائب بيار بوعاصي أكد الأمر. فقال إن جعجع «يجب أن يكون مرشحاً لرئاسة الجمهورية لأنه يملك كل المشروعية لذلك. لا تستطيع البحث عن رئيس للجمهورية، فرئيس الجمهورية يفرض نفسه بحضوره السياسي والبرلماني وبخبرته وبثقة الناس به. وبالتالي، أيّ مرشح يجب أن يتمتع بالمواصفات الموجودة في سمير جعجع من صلابته الى جرأته وتمثيله السياسي، الى قدرته على إعطاء الغطاء للجيش». إذاً فليبقَ قائد الجيش في منصبه، جعجع آتٍ ليمنحه الغطاء المطلوب، بحسب بوعاصي.
من الواضح أن قائد «القوات» لم يتعلم أيّ درس من الحرب الأهلية ولا من مغبّة اللعب بالسلم الأهلي والتحريض الطائفي والمذهبي أو بحلم شطب طائفة ما من الوجود عبر نصح قادتها بالسفر الى بلد آخر. فقرر اليوم أن يخوض بنفسه معركة نزع سلاح المقاومة في ظلّ الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة وغير المبالية بأيّ قرارات دولية أو اتفاقات وتعهدات. والأهم في قاموس جعجع اليوم، هو استغلال اللحظة للقضاء على وجود حزب الله، عسكرياً وسياسياً وشعبياً.
قد يكون منطقياً تقدير ملاقاة جعجع في مطالبه من قبل قوى مسيحية أو من تجمعات نيابية متفرقة. لكن هؤلاء لا يجارون جعجع في خططه، وتجنّبوا المشاركة في لقاءات معراب. وبين هؤلاء من يقول إن القرارات الدولية ملزمة لإسرائيل أيضاً، وإنه يجب تقوية الجيش وتسليحه ليكون قادراً على مواجهة خطر العدوّ الإسرائيلي ولجمه. ويقول أحد نواب «التيار الوطني الحر» إن «الواقع القريب يظهر أن حرب الإبادة الإسرائيلية، وجرائم العدوّ بحق الأطفال والرضّع والنساء والمدنيين والعجّز لم تحرّك الغرب وكل مدّعي الإنسانية، بل كان صمتهم دليلاً بالغاً على قبولهم وتشجيعهم لها»، مضيفاً أنه «في حال توفّر ضمانة بردع إسرائيل وإلزامها باحترام القرارات، لن ننعم بالسلام في مختلف المناطق اللبنانية سواء وُجد سلاح الحزب جنوب أو شمال الليطاني».
من جهته، يشير النائب نبيل بدر إلى «أننا بحاجة إلى أن نلتقي مع حزب الله على صيغة جدية للسلاح سمّيناها استراتيجية الأمن الوطني، يكون فيها السلاح تحت إطار الدولة لأننا لم نعد في لحظة ما قبل 7 أكتوبر ولأن القرارات الخاطئة ستدخل البلد في حروب كبيرة. لكن من المهم أن يتم كل ذلك بالحوار بين جميع الأطراف». أما الحزب التقدمي الاشتراكي فهو يطالب أيضاً بحصرية امتلاك السلاح للدولة اللبنانية.
ويقول مسؤول في الحزب إن هناك «قراراً سياسياً بمنح الجيش دوراً مهماً في الجنوب، ويمكن القيام بذلك من دون الاصطدام مع حزب الله، الذي وافق على آلية تطبيق القرار 1701. لكن هناك ريبة من مدى التزام العدوّ الإسرائيلي بهذه الآلية، وهناك سؤال عن قدرة أو نيّة الأميركيين على إجبار العدوّ على التقيّد بالاتفاق».