مع بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وما رافقها من أكاذيب في الإعلام الغربي حول قطع رؤوس 40 طفلاً، واغتصاب مستوطنات إسرائيليات، بدأ العمل على مراقبة تغطية الصحافة الغربية. أثمرت الجهود عن منصة «رصد» التابعة لـ «معهد الجزيرة للإعلام» التي جمعت كل هذه الممارسات الفاضحة.
تزعم إسرائيل وجود أنفاق في أسفل «مستشفى الساحل» في ضاحية بيروت الجنوبية، تمهيداً لقصفه، فالقضاء على سبل الطبابة والعلاج، يضعف القدرة على تحمّل الحرب. هذا السيناريو هو نفسه الذي نفذته إسرائيل في حرب الإبادة على قطاع غزة.
قبل مدة، نشر «جيش» الاحتلال الإسرائيلي فيديو يزعم فيه أنّ «حزب الله» وضع مئات الملايين من الدولارات والذهب تحت «مستشفى الساحل» في حارة حريك، إلى جانب وجود ملجأ خاص بالشهيد السيّد حسن نصرالله تحت المستشفى. إنّها الادعاءات نفسها التي تحجّج بها «جيش» الاحتلال لقصف «مستشفى المعمداني» و«الشفاء» وغيرهما في قطاع غزة، وكانت وسائل إعلام غربية قد عملت على تبريرها وحتى التمهيد لها.
هذه الممارسات الفاضحة مهنياً، كانت محط مراقبة لمنصة «رصد» التابعة لـ «مجلة الصحافة»، التي تصدر عن «معهد الجزيرة للإعلام».
مع بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وما رافقها من أكاذيب في الإعلام الغربي حول قطع رؤوس 40 طفلاً، واغتصاب نساء إسرائيليات من قبل مقاتلي «القسام»، بدأ العمل على رصد تغطية الصحافة الغربية.
في حديث مع «الأخبار»، يقول محمد أحداد، الصحافي في «معهد الجزيرة للإعلام»، إنّ اهتمام «مجلة الصحافة» يتعلق بدرجةٍ أساسية بالممارسة المهنية المثلى أو بحدود المعايير الأخلاقية والمهنية، إلى جانب توثيق التجربة الميدانية وتجربة «الجزيرة»، وتحقيق تراكم في ما يخصّ الصحافة العربية.
تعنى «المنصة» برصد المخالفات المهنية والتحريرية لدى الإعلام الغربي، ومدى انسياقه وتبنّيه لخطابَي النخب السياسية والعسكرية.
وقد رصدت الكثير من الأخطاء، أبرزها الانحياز التام إلى الرواية الإسرائيلية من دون التحقق منها، أو التحقق من المعطيات الواردة فيها.
يقول أحداد إنّ حجم الخروقات المهنية والأخلاقية التي رافقت الحرب على قطاع غزة تجاوز كل الحدود، فـ «حين تتحول الصحافة إلى أداة تبرير لدول كيانات الاستعمار، فهذا سبب كافٍ لإنشاء هذه الصفحة».
لم تأت مصداقية الإعلام الغربي من العدم، بل هي نتاج تجارب محلية ناجحة محلياً، إذ يلفت أحداد إلى أنّ هذه المصداقية تشكّلت من إتقان الإعلام الغربي لدوره، كسلطة رقابية، في تعامله مع القضايا الداخلية في بلاده، وهذه المصداقية جعلت المؤسسات السياسية والعسكرية تثق بهذه السلطة على المستوى الخارجي.
اهتمامهم بالصحافة الغربية ليس من منطلق أنه هاجس يجب انتقاده، أو أنّهم يريدون إلغاءه، بل «هو اهتمام ينطلق من مبدأ أساسي نؤمن به في «معهد الجزيرة للإعلام»، وهو ممارسة مهنية تُحقّق التوازن والمصداقية والإنصاف للضحايا، وتمثل الدور الأساسي للمهنة وهو المراقبة».
في بداية الحرب على غزة، رصد المعهد نمطاً متكرراً من التغطية المنحازة إلى الرواية الإسرائيلية.
الأخطر في هذا النمط المتكرر ــ بحسب أحداد ـــــ أنّه وفّر غطاءً للاحتلال لتبرير المجازر الجماعية التي ارتكبها في غزة، «ولعل أشهر قصة في هذا الصدد، هي القصة الشهيرة لـ «نيويورك تايمز» التي بُنيت على مصادر ثانوية، وعلى شهادات غير موثوقة، وحرّرته كاتبة قريبة من جيش الاحتلال، وكان التقرير يتعلق بشبهات اعتداءات جنسية ارتكبها مقاتلو «حماس» عشية الـ 7 من أكتوبر».
يرى أحداد أنّه حين تنشر هذا التقرير مؤسسة إعلامية أميركية، ذات قدرة كبيرة على التأثير في القرارين السياسي والعسكري في الولايات المتحدة الأميركية والعالم، فإنها توفر غطاءً للاحتلال لارتكاب الجرائم وتبريرها.
حين يشعر الرجل الأبيض بالخطر، تتآزر المؤسسات السياسية والعسكرية والإعلامية
يشير أحداد إلى نموذج تكرر أثناء التغطية الغربية للحرب على غزة، وهو الصحافة المدمجة بالجيش، إذ رافق صحافيون «الجيش» الإسرائيلي في غزة وتبنوا روايته، عبر تجهيل الضحايا والتلاعب بالعناوين والمصطلحات ونزع الأنسنة عن الضحايا الفلسطينية، وأنسنة القتلى الإسرائيليين، والأهم في كل هذه الأنماط هو إسقاط السياق أو نزع السياق في حرب الإبادة الجماعية في فلسطين.
«بالنسبة إلى الصحافة الغربية في الولايات المتحدة وأوروبا، بدأت القضية الفلسطينية يوم 7 أكتوبر 2023» يقول أحداد، مضيفاً: «بالتالي، فقد أسقطت سياقاً سياسياً وثقافياً وتاريخياً يتعلق بالقضية الفلسطينية، وسياقاً دولياً وحقوقياً، وأسقطت عبره القانون الدولي الإنساني وقوانين الأمم المتحدة والتقارير الحقوقية الدولية، القائلة إنّ هناك شعباً يعيش على وقع الاحتلال».
اهتمام «مجلة الصحافة» برصد هذا النمط، ليس لحظوياً، ولا ينتهي بإنهاء الحرب. يحدّد أحداد أهدافها بأن تتحول أولاً إلى مرجع للباحثين عن هذه الأنماط، وثانياً للتحرّر من الوهم القديم بأن الصحافة الغربية تمتلك هذه السلطة الأخلاقية أو السلطة المهنية لتصبح مرجعاً لنا في دول الجنوب، إذ لا يمكن اعتبار الصحافة الغربية مرجعاً بعد اليوم، وهي تبرّر قتل 42 ألف فلسطيني وفقدان 10 آلاف آخرين، واستهداف المنشآت المدنية ومنشآت الأمم المتحدة، وحتى حين استُهدفت قوات اليونيفيل في لبنان، تكرّر ما قامت به في فلسطين، وحتى في الصياغات التحريرية باستخدام المصطلحات، كأنّ إسرائيل استهدفت مقاتلين لـ «حزب الله» وليس قوات للأمم المتحدة.
وعليه، دور منصة «الرصد» أولاً هو ثقافي وتوعوي، وثانياً بحثي رصين، وثالثاً محاولة لتأسيس لمرجعية تعنى بالممارسات التحريرية، المتعلقة بالقضية الأساسية المُشكّلة لبوصلة الوعي الثقافي والسياسي العربي.
أثناء رصدهم لعمل الإعلام الغربي، ظهر تغيّر في تغطية هذه المؤسسات للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، مدفوعاً بضغط الرأي العام الدولي، وثانياً أمام حجم الإبادة الواقعة في فلسطين، لكن هذا لم يلغ المخالفات المهنية التي لا تزال مستمرة.
ويضيف أحداد: «هذا له تأثير خارج الإطار المهني، إذ حين يشعر الرجل الأبيض بالخطر أو حين يمسّ الاستعمار، يظهر نوع من التآزر والتواطؤ بين المؤسسات السياسية والعسكرية والإعلامية، فتشكّل نوعاً من التعبئة الشاملة».
مع توسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان، ظهر تشابه في تغطية الإعلام الغربي بين غزة ولبنان، فـ «نيويورك تايمز» مثلاً، تصف حرب إسرائيل على لبنان بالتوغل.
وتظهر بعض المؤشرات متشابهةً لما حصل في غزة، «من تجهيل للضحايا الذين يسقطون في الغارات، إذ يتم التركيز على قياديي «حزب الله»، كما تغيب مأساة المدنيين بشكل شبه كليّ في لبنان، وقد تم تجاهل المدنيين بشكل فاضح حين استهدفت إسرائيل أكثر من 5000 لبناني بتفجير أجهزة البيجر، وتم التركيز على النجاح الاستخباراتي الأمني الإسرائيلي والاختراق الأمني لـ «حزب الله»، بينما مأساة المدنيين تصل إلى جريمة حرب، لكن الإعلام الغربي لم يركز على هذه النقطة ولم يجد ضرورة لمحاسبة إسرائيل عليها» على حد تعبير أحداد.
ورغم ذلك، يلمس فريق العمل تغيّراً في الخطاب، يظهر بشكلٍ أوضح لدى الإعلام الأوروبي، الذي بدأ يشعر أنّ ما يحدث في فلسطين، أوسع وأكبر من مجرد ردّ فعل على ما حدث في السابع من أكتوبر. لقد بدأ يدرك أنّ هناك حرب إبادة جماعية.
لكنّ أحداد لا يعتبر أنّ هذا التغير هو بالمستوى المهني الذي نريده، لكنه تغير طفيف يمكن البناء عليه. أما الإعلام الأميركي، فلا يزال يعمل وفقاً لقاعدة التوافق المصطنع، إذ يفرد عشر مقالات منحازة إلى إسرائيل، ومقالاً واحداً عن أطفال فلسطينيين.