مقالات

عن أشرف الناس..

تراحم، تكافل، حبّ، إيثار، وفاء، لهفة، نقاء، نخوة، شجاعة، فداء، طهر، عرفان بالجميل.. لا تنطوي اللغات على مفردة تفي وحدها توصيف المشهد، في مجتمع المقاومة، بعد عدوان الثامن عشر والتاسع عشر من أيلول الحالي.. المشهد العظيم الذي حوى المئات من قصص أبطالها؛ أشخاص مسّهم ضرّ العدوان بغية كسر عزيمتهم وتفريق شملهم وسلخ ارتباطهم بالمقاومة، فتلاحموا بتلقائية وعفوية وصدق، وتحرّكوا كأنّهم القلب واحد في جسم المقاومة..

عصر الثامن عشر من أيلول، وفيما كان كل شارع في الضاحية يحتضن دمًا سال من جراح الطاهرين، والذهول يغمر الوجوه ويظلّل العيون..

على الرغم من حجم المصاب الغادر، وما يخلّفه من خوف وإرباك، رأينا الناس يسطّرون البطولات الإنسانية بأعلى مراتبها، من دون افتعال أو قصد: سيّدة مسنّة تجلس مكسورة الخاطر أمام بوابة المستشفى.. المكان مكتظّ؛ فتعداد المصابين مهول.. يقترب منها أحد الشبّان يسألها عن اسم من جاءت لأجله إلى هنا، فتجيب بصوت منخفض: “كلّ يلي جوّا ولادي”.. هي حاجّة خرجت من بيتها في لحظة كان الخروج فيها غير آمن أبدًا، كي تطمئن على الكلّ، الكلّ الذين أصبحوا في لحظة المصاب أبناء قلبها.. سيّدة أخرى، يبدو عليها الوهن والتعب، ترجو إحدى الممرّضات أن تصحبها إلى حيث “بيسحبوا دم”.. فتى صغير يبكي راجيًا شباب الهيئة الصحية أن يسمحوا له بالتبرّع بالدم.. يبكي بحرقة وغضب.. يشكو للرجال الواقفين ينتظرون دورهم للتبرع، يطلب منهم مساعدتهم في إقناع الشباب.. مريض في المستشفى يصرّ على المغادرة بالرغم من خطورة وضعه الصحيّ كي يُخلي سريره لجريح قد يحتاج إليه.. جموع من الشبّان يهرعون لفتح السير أمام سيارة إسعاف.. جموع من النساء تتحلّق حول أمّ أو زوجة أو أخت جريح..

مع الساعات الأولى للمجزرة غير المسبوقة، وبالتزامن مع حملات التبرّع بالدم وتطوّع الأطباء والممرّضين والمسعفين من المناطق كافة للمساعدة في علاج العدد الهائل من الجرح؛، بدأت حملة لا سابق لها: من كلّ بيت شخص أو أكثر يعرض التبرّع بعين أو بكلية أو بقطعة من كبد.

أجل! أهل المقاومة يريدون تقاسم الأعين والأكباد والكلى، وكلّ الأعضاء التي يمكن للحيّ أن يهبها لأخٍ له.. في العادة، نسمع عن وهب الأعضاء في الأطر العائلية، ونتعامل مع القصّة بتأثّر بالغ.. من يتخيّل ردّ فعل قلوبنا، ونحن نرى أنّ مجتمع المقاومة في ساعة المصاب أمسى عائلة واحدة، يهبّ أفرادها إلى بعضهم بعضًا عينًا وكبدًا وكلية.. بل أكثر من ذلك، رأينا وسمعنا رجالًا يرجون المعنيين قبول طلبهم بالوهب.. يقسمون عليهم بالله وبالأئمة.. يناشدون، يستصرخون، يذوبون حياء؛ لأنّ النور يعبر أعينهم في ما الكثير من الجرحى فقدوا بصرهم.. !

في جانب آخر؛ اصطف أصحاب الاختصاصات المختلفة يعرضون خدماتهم على الجرحى وعوائلهم، كلّ بحسب اختصاصه ومعارفه.. الأطباء والممرضون والصيادلة والمعالجون الفيزيائيون والنفسيون يعلنون عن تقديم الخدمات الصحية والعلاجية كافة مجانًا.. المعلمون يعرضون مساعدة أبناء الجرحى في دراستهم، أصحاب المهن الحرّة يتبرّعون بما أمكنهم.. الشبان يضعون دراجاتهم النارية وسياراتهم في خدمة عوائل الجرحى.. وسيّدات في البيوت يتولّين مهمّة “لفّ السندويشات” وتحضير ما تيسّر من أطباق الطعام لإرسالها إلى العوائل الموجودة بالقرب من الجرحى في المستشفيات… حال تكافلية مذهلة تخطف الأنفاس، عبّرت عن نفسها في كلّ لحظة داخل هذا المجتمع المقاوم، وشرحت من دون كلام معنى أن يكون للمجتمع روح واحدة، روح تقاتل..

عوائل الشهداء والجرحى، عوائل نهج “ما رأينا إلّا جميلًا”؛ أظهروا كلّ جلد وصبر وحبّ في مواجهة الألم العظيم: تمسّكوا بمقاومتهم أكثر، وعلا في أرواحهم منسوب الاعتزاز بالانتماء إلى خطّ انتصار الدم على السّيف.. رفعوا توجّعهم وفقدهم قربانًا إلى السماء.. تجلّدوا، تبسّموا لكاميرات تبحث عن لحظة ضعف في ملامحهم، وردّدوا ما يجول في قلوبهم من كلمات العزّة والإيمان والولاء: “صبر أهل البيت فينا، اللّه حطّو كلّو”

جميع هذه المشاهد تشكّل صورة واحدة: صورتنا.. صورة أشرف الناس، وهم يحبطون هدفًا أساسيًا من أهداف العدوان، وهو فكّ ارتباط الناس بالمقاومة.. وهو من الأهداف التي توضح مدى جهل الصهاينة بحقيقة وطبيعة هذا الارتباط الوجداني السّامي.. فأشرف الناس والمقاومة هم في الحقيقة كيان واحد، عناصر متكاملة في خلية إنسانية ثقافية عقدية أخلاقية واحدة..  سنين طويلة ولم يفهم العدو، ولا أدواته، طبيعة مجتمع المقاومة وارتباطه بمنظومتها وسلاحها.. لم يفهم أنّ رجال الله هم أبناء هذه البيوت العزيزة، وأنّ الارتباط بين حزب الله وأشرف الناس هو ارتباط الابن ببيته وأهله.. لم يفهم، ولن يفهم، أنّ إيلام أشرف الناس بفلذات أكبادهم من رجال الله لا يزيدهم إلا تمسّكًا بالمقاومة، وولاءً لها، حزبًا ونهجًا ومسارًا، يؤدي يقينًا إلى النّصر..

المصدر:العهد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى