مقالات

التليغرام آخر معاقل الحرية (الافتـراضية)؟

لحظة وصوله إلى فرنسا قبل أيام، أُلقي القبض على مؤسس تليغرام بافيل دوروف، بتهمة «الاستعمال المسيء للتطبيق من قبل بعض المستخدمين».

لكنّ الفرضية الأخرى أنّ التطبيق الذي بات يضمّ ما يقارب مليار مستخدم منذ انطلاقته في عام 2013، بات يخيف الأنظمة التي تسعى إلى سرقة بيانات أعضائه من دون جدوى.

لكن لماذا الآن؟ وما المقصود بتهمة «تبرير الإرهاب» التي رفعها المحققون الفرنسيون ضده؟ وهل هي متعلّقة بحرب الإبادة الصهيونية على غزة؟

قبل ثلاثة أيام، اعتقلت السلطات الفرنسية مؤسس تطبيق تليغرام، رجل الأعمال الروسي بافيل دوروف (1984)، لحظة وصوله إلى مطار لوبورجيه القريب من باريس، بعدما كان قادماً من أذربيجان لقضاء يومين في باريس.

جاء إلقاء القبض على أغنى أثرياء الشرق الأوسط، وفقاً لمذكرة توقيف صدرت فوراً تحت ادعاءات بانتهاكات يقوم بها تطبيق التراسل الفوري المشفّر الذي يضم ما يقارب مليار مستخدم منذ انطلاقته في عام 2013.

يواجه بافيل دوروف، الذي يحمل أيضاً الجنسية الفرنسية منذ عام 2021، عقوبة بالسجن قد تصل إلى عشرين عاماً في حال ثبتت التهم التي يسعى محققون فرنسيون إلى إغراقه بها بتهمة «الاستعمال المسيء للتطبيق من قبل بعض المستخدمين».

وفقاً لقناة TF1 الفرنسية، فإنّ الشكوى الرئيسية لسلطات الاتحاد الأوروبي ضد تليغرام هي «الرسائل المشفرة».

ولأنّ دوروف «لم يتجاوب مع قوات الأمن الفرنسية»، فإنّ ذلك يجعله شريكاً في الجرائم التي تحدث عبر التطبيق.

وكان المكتب المسؤول عن «هيئة مكافحة العنف ضدّ القاصرين» (Ofmin) بصفته منسقاً في التحقيق الأولي في «جرائم الاحتيال وتهريب المخدرات والمضايقة عبر الإنترنت والجريمة المنظمة»، قد أصدر مذكرة اعتقال بحق دوروف متهماً إياه بـ«تبرير الإرهاب».

بعد ساعات على توقيفه، أصدرت الشركة بياناً عبر تطبيقها وشاركته على منصة إكس، تقول فيه إنّ «تليغرام تمتثل لقوانين الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك قانون الخدمات الرقمية».

وأضافت أنّه «ليس لدى الرئيس التنفيذي لشركة تليغرام بافيل دوروف ما يخفيه، فهو يسافر بوتيرة متكررة إلى أوروبا». كما اعتبرت أنه من «السخف» ادعاء مسؤولية المنصّة ومالكها عن سوء استخدامها، خاتمةً البيان بأنها في انتظار حلٍّ سريع.

يواجه مؤسس التطبيق بافيل دوروف تهمة «الاستعمال المسيء للتطبيق من قبل بعض المستخدمين»

هنا يكمن السؤال في حقيقة اعتقال دوروف وأبعاده وتداعياته: لماذا الآن؟ وما المقصود بتهمة «تبرير الإرهاب» التي رفعها المحققون الفرنسيون ضده؟ وهل هي متعلقة بشكل مباشر بحرب الإبادة على غزة؟

جاء خبر اعتقال مؤسس تليغرام برد فعل احتجاجي عالمي وفقاً لما ظهر على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ كتب المدير التنفيذي ومالك منصة إكس (تويتر سابقاً) إيلون ماسك تغريدة ساخرة قائلاً: «من وجهة نظري، أعتقد أنه بحلول عام 2030 قد يتم إعدامك في أوروبا لمجرد إعجابك بصورة ساخرة meme».

ثم أتبعها بأخرى ساخرة من التعديل الأول للقانون الذي يتعلق بحريات اعتناق الدين والتعبير والصحافة والحق في التجمّع السلمي للمواطنين، وتغريدة أخرى تقول: «أن تكون مدافعاً عن حرية التعبير في هذه الأيام يشبه أكثر فأكثر مشكلة كوباياشي مورو» (مستعار من مسلسل الخيال العلمي «ستار تريك»).

ويقصد القول إنّ الدفاع عن حرية التعبير أصبح في عصرنا «سيناريو غير مربح».

ونشر الإعلام الأميركي جاكسون هينكل، الذي اشتهر حسابه في الحرب الصهيونية الحالية على غزة بتعرية بروباغندا الاحتلال الإسرائيلي، تغريدةً عن الاتهامات التي تعرّض لها دوروف، موضحاً أنّ الحكومة الأميركية ترتكب جرائم حقيقية من «تمويل الإبادة، وتبييض الأموال عبر أوكرانيا، وتسليح كارتيلات المخدرات في المكسيك».

وأعاد الصحافي تاكر كارلسون نشر مقابلة كان قد أجراها قبل أشهر مع مؤسس تليغرام معلّقاً: «لقد غادر بافيل دوروف روسيا عندما حاولت الدولة السيطرة على مؤسسته تليغرام.

لكن في النهاية، لم يكن بوتين من اعتقله لسماحه للجماهير بممارسة حرية التعبير، بل كان بلداً غربياً، حليف إدارة بايدن وعضواً في الناتو.

يجلس بافيل دوروف في سجن فرنسي الليلة، وهو تحذير حيّ لأي مالك منصة يرفض الرقابة على الحقيقة بناءً على طلب الحكومات ووكالات الاستخبارات» خاتماً تغريدته بجملة: «الظلام يحلّ بسرعة على العالم الذي كان في السابق حراً».

واتّهمت حسابات أخرى جهاز الاستخبارات الصهيوني والأمن الفرنسي بوقوفهما وراء الاعتقال بغرض السيطرة على آخر وسيلة تواصل افتراضية «حرة»، بعد فشلهما في السيطرة على تيك توك الذي يحظى بغطاءٍ صيني رسمي.

لكن تغريدة إيلون ماسك الأحدث التي قارن فيها بين بافيل دوروف، ومؤسّس منصّة فايسبوك (ومالك إنستغرام وواتساب) مارك زوكربيرغ توضح الكثير، إذ أعاد نشر تغريدة تسأل عن السبب الذي يمنع من اعتقال مارك زوكربيرغ بتهمة «استغلال الأطفال»، مجيباً عليها بأنّ أحداً لن يعتقل رئيس شركة ميتا، لأنّه «يفرض رقابة على حرية التعبير ويمنح سلطات الدول الأخرى إمكانية الوصول إلى البيانات عبر الباب الخلفي».

وأشار إلى الأمر نفسه معاون مؤسّس ويكيليكس جوليان أسانج، النائب الإيطالي أدريان ماكراي، في مقابلة أجراها مع وكالة ««سبوتنيك»، إذ قال إنّ اعتقال دوروف «يأتي بتوجيه من أجهزة الاستخبارات الأميركية وحلف شمال الأطلسي اللذين وصلا إلى حالة من اليأس بشأن الوصول إلى بيانات ومعلومات عن منصة تليغرام، بعدما وصلا بالطريقة نفسها إلى واتساب وجميع المنصات الإعلامية المملوكة من قبل شركة ميتا».

ميزة الأمان والخصوصيّة

هناك ميزات يوفّرها تطبيق تليغرام تجعل أجهزة الأمن في الدول الغربية تلهث للانتفاع منها، ويبدأ الأمر بالتضييق على مؤسسه ثم اعتقاله والتحقيق معه بغية الضغط عليه وإيجاد منفذ لسرقة بيانات المشتركين في التطبيق.

يتميّز تطبيق تليغرام، عن منافسه واتساب (2009) الأكثر شعبية واستخداماً الذي يمتلكه زوكربيرغ منذ عام 2014، بخاصية إنشاء القنوات (channels) التي يمكنها استيعاب عدد هائل من الأعضاء/ المشتركين للقناة الواحدة، بالإضافة إلى «مجموعات» (groups) ضخمة تصل قدرة استيعابها إلى 200 ألف مشترك.

في المقابل، يوفّر واتساب خدمة «محادثات جماعية» (chat groups) لا تتجاوز الألف، و«مجتمعات» (communities) قد تصل إلى 5 آلاف مشترك، بحسب معلومات الموقع الرسمي.

أما في ما يتعلّق بحجم المواد المرسلة من صور وفيديوات، فيعدّ تليغرام الأكثر احترافية ومهنيةً بين تطبيقات المراسلات الهاتفية، نظراً إلى قدرته على إرسال ملفات كبيرة بحجم 2 جيغابايت وتخزينها وبدقة عالية للصور، مقابل 100 ميغا عبر واتساب إذ يتم ضغط الملفات وتقليل جودتها البصرية.

كما إنّ تليغرام يحافظ على المصدر لدى مشاركة الرسائل والأخبار مع أي حسابٍ عبر التطبيق. لكن الأهم هنا يكمن في ميزة الأمان والخصوصية وحماية المحادثات والملفات المرسلة، فهناك مثلاً خاصية تمنع «لقطات الشاشة» (screenshots)، وأخرى تمنح المشترك في قناة ما اختيار إخفاء رقم هاتفه عن بقية المشتركين ومسؤولي القنوات.

هذه الميزات بالتحديد (بالإضافة إلى سهولة مشاركة المعلومات وسرعتها في عصر الإنترنت) كانت السبب الذي دفع الكثير من المنظمات والجماعات حول العالم، إلى إنشاء قنواتها الإعلامية الخاصة التي تمكّنها من مشاركة أخبارها بلسانها ووفقاً لروايتها، من دون أي اعتراض أو تلاعب أو تضليل في المعلومات المنقولة، خصوصاً بعد عقودٍ من احتكار وسائل الإعلام الكلاسيكية العالمية لـ «الحقيقة» التي تناسبها، وإن كانت بروباغندا متحيّزة للطرف الأقوى سياسياً، عسكرياً، واقتصادياً.

ففي الحرب بين روسيا وأوكرانيا على سبيل المثال، اتجهت الجماهير إلى متابعة قنوات تليغرام للحصول على الأخبار السريعة حول تطورات الحرب (في ظل حظر فايسبوك وواتساب)، فأصبح التليغرام من المصادر الأساسية والمباشرة للأخبار القادمة من الميدان.

معكم «حماس»… من أرض المعركة
خلال الحرب الصهيونية الحالية على غزة، تعرّض مالك المنصّة لموجة انتقادات بعد السابع من أكتوبر لرفضه حجب حساب حركة المقاومة الإسلامية «حماس» وجناحها العسكري «كتائب الشهيد عز الدين القسام».

وتساءل يومها إن كان حجب الحساب سيساعد في إنقاذ الأرواح أم سيعرّضها للخطر؟ مشيراً إلى إنذار «حماس» لسكان مدينة عسقلان بضرورة المغادرة قبل إطلاق رشقات صاروخية.

وأكّد دوروف بأنّه «لا يمكن استخدام حسابات تليغرام لتكثيف الدعاية، فهم يتلقون فقط المعلومات من القنوات التي يتابعونها»، فيما يستفيد الباحثون والصحافيون منها للتأكد من الحقائق.

ويسعى العدو الصهيوني باستمرار إلى سلب «حماس» حسابها على التليغرام، خصوصاً بعدما زاد عدد المتابعين أكثر من ثلاثة أضعاف في هذه المدة القصيرة. وفقاً للقناة 13 الصهيونية، أرسلت «القسام» عبر التليغرام صوراً لعائلة أحد الأسرى الإسرائيليين الذي قتل في قصف إسرائيلي على غزة.

منذ عملية «طوفان الأقصى»، لجأت «حماس» التي تعرّضت منذ أربع سنوات (2020) لاختراق مجموعاتها على الواتساب وحظر حساباتها وحجب منشوراتها على مختلف منصّات التواصل الاجتماعي، إلى تطبيق تليغرام لإرسال الصور والفيديوات والأخبار بشكل مباشر من أرض المعركة.

وفرضت شركة غوغل على تليغرام حجب عدد من القنوات التابعة لـ «حماس» في نسخة التطبيق التي تعمل بنظام «أندرويد»، فأصبحت تلك القنوات غير متاحة للمستخدمين الذين حصلوا على تطبيق تليغرام من متجر «غوغل بلاي».

تحذير حيّ لأي مالك منصة يرفض الرقابة على الحقيقة بناءً على أوامر الحكومات ووكالات الاستخبارات

لكن أليس من المفترض أن تكون منصّات التواصل الاجتماعي هذه فضاءً عاماً للمواطنين والجماهير حول العالم كما يشاع؟ ألم تكن الغاية الأولى من إنشائها تقديم خدمة التواصل الحر بين الناس وامتلاك كل مشترك منبراً خاصاً عبارة عن حسابه الذي يمكّنه من التعبير عن رأيه ونشر ما يريده بحسب الظاهر؟

حين نشأت هذه المنصات، قدّمت نفسها على شكل «فضاء عام بديل» في نقدٍ لنظرية الفضاء العام public sphere لصاحبها الفيلسوف الألماني (الصهيوني) يورغن هابرماس في سبعينيات القرن الماضي، وغدت من الأطروحات الأكاديمية المهمة التي جرت الإفادة منها في مجالات متعدّدة من بينها العلوم السياسية والدراسات الإعلامية والسوسيولوجيا.

قدّم المفكر الأهم منذ عقود لدى الألمان، ووريث «مدرسة فرانكفورت» الفكرية النقدية، فكرته حول الفضاء العام والفعل التواصلي الذي يضمن الديموقراطية وحرية التعبير والتمثيل السياسي الصحيح، موجّهاً نقده إلى الأنظمة الشمولية التي سيطرت على الفضاء العام وأبعدت المواطنين عن الدولة وعملها ومساءلتها.

واعتبر الفضاء العام المجال الذي يجتمع فيه الناس للتواصل ومشاركة آرائهم حول حقوقهم وأداء الدولة. كما رأى أنّ احتكار الإعلام من قبل الأنظمة السياسية الشمولية، يمنع تشكّل الفضاء العام.

فتعدّد قنوات الإعلام وتدفق المعلومات المتنوعة المصادر، أمر يسهم في خلق مواطنين متساوين ذوي وعي بحقوقهم، وبالتالي يستطيعون التعبير عن آرائهم ومساءلة السياسيين ومعرفة واجباتهم. لكنّ المؤسسات الإعلامية التقليدية من صحف وإذاعات وقنوات تلفزة تابعة للدول الغربية، كما لبعض الدول العربية، أثبتت أنّها ــ وإن تعدّدت أسماؤها وجنسياتها ـــ منصة واحدة، وبوق واحد يردّد الرواية نفسها.

تعرّض مالك المنصّة لموجة انتقادات بسبب رفضه حجب حساب «حماس» وجناحها العسكري

منذ اليوم الأول للعدوان الصهيوني على غزة والإعلام الغربي يمعن في التضليل ويمارس ازدواجية المعايير (راجع الأخبار 27/11/2023) في تغطيته للأخبار عن الحرب. ويكاد المشاهد لا يميز القنوات الأميركية عن تلك الفرنسية أو الألمانية والبريطانية من شدة التنسيق في المصطلحات وتوحيد الرواية التي تتهم باستمرار المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، وتجيد فبركة المعطيات لتتوافق مع الرواية الصهيونية وبالتالي تبرئة الاحتلال.

هذا الفضاء العام فشل فشلاً ذريعاً، حسب عشرات آلاف الحسابات على منصات التواصل الاجتماعي، التي تناولت «الحبة الحمراء» (ترمز إلى الوعي في فيلم «ماتريكس»/ 1999) وهجرت الإعلام الكلاسيكي، متّجهةً بقوة إلى منصات التواصل الاجتماعي (فايسبوك، إنستغرام، تويتر، تيك توك، تليغرام، واتساب…) بهدف الحصول على الحقائق كما هي من دون «فلترة» أو تضليل.

لكن مع ما يقوم به الاتحاد الأوروبي من توجيه تحذيرات رسمية لشركات منصّات التواصل الاجتماعي العالمية ومؤسّسيها، بهدف حجب الحسابات وحذف الأخبار المؤيدة والداعمة للمقاومة الفلسطينية، لم يعد الفضاء العام البديل «فضاءً عاماً».

بعد إجبار شركة «ميتا» على حظر محتوى ضخم عن منصتَيها فايسبوك وإنستغرام صنّفته بأنّه «محتوى عنيف» أو «مضلّل»، وكذلك الأمر مع منصة إكس التي تلقّت تحذيرات رسمية بفرض عقوبات قانونية عليها إذا لم تحذف المحتوى المؤيّد لحركة «حماس»، أصبحت منصات التواصل الاجتماعي نسخةً أخرى عن النظام الشمولي المحتكر للميديا وتدفّق المعلومات، وغدا الإنترنت ـــ بتنوع أشكال خدماته الإعلامية ـــ فضاءً ضيّقاً لا يتّسع للحقيقة إذ تأتي على لسان أصحابها.

المصدر: جريدة الاخبار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى