أنظروا أين نحن: محور المقاومة والكيان الصهيوني يرفعان اللاءات: لا قبول بالاستهداف النوعي ولا رضوخ للاستنزاف القاتل، ولا مكان للردود المحدودة، ولا توقّف لجبهات الإسناد مطلقاً!
يبدو أنّ المنطقة التي دخلت في مرجل يغلي، قد وصلت بفعل تصعيد العدوان عليها إلى مرحلة يصح وصفها بكوب فارغ من قطرة ماء واحدة، وهذا الاستنتاج مردّه إلى تصاعد العدوان وازدياد شراسته في نقل الاستهدافات بعيداً جداً عن حدود قواعد الاشتباك ومعادلات الردع المفترضة، ولا سيما مع الاستهدافين الأخيرين للقيادي الكبير في المقاومة فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية، والاغتيال الغادر لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس القائد إسماعيل هنية في طهران، وليعلن على أثرها نتنياهو بأنّ “مرحلة جديدة في معادلات الحرب قد آن أوانها، وأنّ إسرائيل على استعداد للحرب الشاملة على جميع الجبهات”.
لعلّ أوّل ما يتبادر إلى الذهن، هو البحث عن السبب الحقيقي لهذا التحوّل المفصلي في مسار العدوان، وذلك بعيداً عن الحجج والذرائع الواهية؟ أليس هذا ضرباً من الجنون، والذي يمكنه أن يفتح حرباً شاملة في المنطقة؟ أو ليست هذه الأخيرة كانت ورقة رابحة في يد المحور الذي لطالما هدّد ويهدّد بها؟ ولماذا تحوّلت بين ليلة وضحاها إلى مطلب لنتنياهو !!
لعلّ الإجابة عن هذه التساؤلات تكشف لنا جلياً سرّ هذا التحوّل في عقل نتنياهو، والذي يبدو أنه قد “اهتدى” مؤخّراً إلى حقيقة مفادها بأن “محور المقاومة يُفضّل الاستنزاف القاتل للكيان، بدلاً من إطلاق الحرب الشاملة عليه”، وكما كان اعتقاد الكيان حتى الأمس القريب.
إذا أردنا أن نقارب هذا التحوّل في عقل نتنياهو، فإننا نجد له مكاناً من الواقعية، ولا سيما أنّ عشرة أشهر على انطلاق جبهات الإسناد أثبتت بالفعل نجاعة في تطويق الكيان، وحشره في دائرة من الاستنزاف القاتل، والذي منعته كلّ تلك الفترة من الخروج من براثنها وعواقبها الوخيمة على الصعد والمستويات كافة، وذلك في مقابل “صيّادي البط” العسكري والسياسي والاقتصادي والمعنوي والردعي في المحور المقابل، والذين يبدو أنهم وعوا جيداً لتكلفة هذه المعادلة عليهم، والتي هي أقل بكثير مما يحدث لدى الكيان.
فيكفي مثلاً أن نراجع عبارات “الذل والمهانة وفقدان الردع والأمل و…” لدى مختلف مستويات النخب في كيان العدو، لنعلم ساعتئذٍ ما هي الدوافع التي حدت بنتنياهو التوجّه نحو مجازفة كبرى، وحتى لو أوصلت كيانه إلى الحرب الشاملة، وليتكوّن لديه اعتقاد بأنّ كأس مرارتها هي أقلّ بدرجات من مرارات كأس معركة الاستنزاف الحاصلة، وهكذا أعلن مع الاغتيالين الأخيرين بأن المعادلة قد تغيّرت لديه بالفعل .
على مقلب محور المقاومة، فإنّ جبهات الإسناد التي أطلقها نصرة لقطاع غزة، لم تكن عبثية، كما حاول البعض تبخيس نتائجها في بدايات انطلاقتها، فهذا المحور كان قد فاضل في قراره لما بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر بين إطلاق حرب شاملة، ستكون نتائجها وتداعياتها مدمّرة على الكيان، ولكنها أيضاً ليست وردية على ساحاته، وخصوصاً أنه لمس أنّ أميركا لن تتردّد لحظة في منع وصول الكيان إلى مرحلة لفظ الأنفاس، والأسباب معلومة للجميع.
وبين اتباع استراتيجية لحبس الكيان في دائرة استنزاف مديدة وقاتلة، ولكنها ستكون مترافقة في الوقت عينه مع قواعد اشتباك ومعادلات تقطع الطريق على أميركا من أن تكون مدافعة ومهاجمة في آن واحد، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإنّ نوعاً كهذا من المعارك الدائرة كان قد كبّل يدي العدو ومنعه لأشهر عشرة من التمادي وتجاوز الخطوط الحمر، ولكنها في الوقت ذاته جعلته يتأكّل من الداخل ـــــ وإن استلزم ذلك وقتاً أطول ـــــ وهذا ما لمسنا نتائجه على مختلف الصعد في كيان العدو .
إذاً انجلت الغبرة وبان التوجّه، فمع اغتيال القائدين شكر وهنية، أعلن نتنياهو على الملء رفضه الرضوخ لدائرة الاستنزاف القاتل، وأطلق مرحلة الاستهداف النوعي، وأصبح يهدّد بالحرب الشاملة، ومع الردود النوعية المنتظرة لمحور المقاومة، ومع إعلان هذا الأخير صراحة وبلسان السيد نصر الله بأننا “دخلنا في مرحلة جديدة”، وكذلك “الخروج من مفهوم الإسناد إلى مفهوم المعركة الكاملة”، وهذا معناه عملياً أنّ المحور يريد للاستنزاف أن يعيش عمراً مديداً ما دام العدوان على قطاع غزة مستمراً، وذلك بخلاف رغبة نتنياهو الجديدة .
إنها معضلة حقاً فالكيان أصبح يفضّل الولوج في الحرب الشاملة على رضوخه للاستنزاف، أما المحور فسيجد نفسه ملزماً باللجوء إلى الردود الحقيقية والمؤثّرة من دون الوصول إلى الحرب الشاملة، وذلك مع إصراره على أن يسير مسارا الردود المؤثّرة والاستنزاف المديد جنباً إلى جنب في الزمن المتبقّي لعمر هذه الحرب .
إذاً، لقد وصلت الحرب إلى مفترق طرق، يكون المانع فيها للحرب الشاملة متعذراً، وذلك في ظلّ سيناريوهين اثنين، أحدهما مرفوض من الطرفين، والثاني مرغوب من المحور ومرفوض من قبل العدو، فإما :
– قبول ضمني من المحور لتحوّل العدو إلى استراتيجية الاستهداف النوعي في ساحاته، يقابلها في الوقت نفسه قبول ضمني من العدو لردود محدودة منه، ورضوخ مبطّن لديه لاستمرار معركة الاستنزاف الحاصلة، وهذا السيناريو يبدو أنه مرفوض من الطرفين، وليس من أحدهما فقط .
– وإما رفض المحور العلني لارتقاء العدو في درجة استهدافاته، وذلك عبر ممارسته استراتيجية الردود القوية والمؤثّرة والسير معها في آن واحد مع معركة الاستنزاف التي يشنّها، وهذا السيناريو سيكون مرفوضاً من العدو كما بيّنا سابقاً.
إنها حقاً معضلة: فالكيان “انتفض” على معركة الاستنزاف وتحوّل إلى الاستهداف النوعي، وشرطه في امتناعه عن ذهابه إلى الحرب الشاملة يتمثّل فقط برضوخ المحور لمحدودية الردود، ومن ثمّ الضغط عليه لـ “إرضاخه” ليوقف معركة الاستنزاف التي يقودها، وفصل الساحات عن بعضها البعض، وهذا مُحال طبعاً .
خلاصة القول لقد أعلنها المحور صراحة وبلسان السيد نصر الله: ” الاستنزاف مستمرّ والردود ستكون قوية ومؤثّرة”، وتكملة الكلام جاء في عبارة سابقة له، وذلك عندما بدأ العدو يهدّد بالذهاب إلى الحرب الشاملة، والتي كانت في حينه “يا هلا ومرحب”.