دخلت الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا مرحلة جديدة مع اغتيالها رجل الأعمال المعروف براء القاطرجي، إذ إنها، طوال الأعوام السابقة، كانت تستهدف مواقع عسكرية ومنشآت مدنية بحجة قيامها بأعمال عسكرية، وكوادر من المقاومة الإسلامية اللبنانية، موجودين في الأراضي السورية، وبعض المستشارين العسكريين والمدنيين الإيرانيين.
لكنها، في هذه المرة، استهدفت شخصية عشائرية واقتصادية مؤثرة بصورة كبيرة في سوريا، ولديها علاقات خارجية متميزة بدول عربية وأجنبية بحكم نشاطها الاقتصادي.
فهل انتقلت “إسرائيل” في اعتداءاتها على سوريا إلى مرحلة استهداف شخصياتها العلمية والاقتصادية والاجتماعية بصورة مباشرة، كما عملت طوال سبعين عاماً مع خيرة علماء الذرة والمثقفين العرب، وكما فعلت حليفتها التقليدية الولايات المتحدة الأميركية مع آلاف العلماء العراقيين على اختلاف اختصاصاتهم ومؤهلاتهم، بعد غزوها بلدهم في عام 2003؟
قتل المؤثرين
لم تكن “إسرائيل” بعيدة عن عمليات الاغتيال التي تعرضت لها شخصيات سورية متعددة خلال أعوام الحرب، بدءاً من بعض الشخصيات العسكرية التي تركت بصمات كبيرة في مجال تعزيز القدرات والإمكانات للجيش السوري وفصائل المقاومة، وصولاً إلى الشخصيات المدنية من مخترعين ورياضيين وغيرهم. ومع أن “إسرائيل” حرصت، في جميع عمليات الاغتيال المذكورة، على تسويق ما يحدث على أنه جزء من نتاج المعركة الدائرة بين “النظام” ومعارضيه المسلحين، فإن طريقة التنفيذ والمصلحة المباشرة كانتا لا تخفيان التخطيط والإسناد الإسرائيليّين، ولاسيما أن بعض عمليات الاغتيال جرى باحترافية عالية، وفي مناطق توصف بأنها الحاضنة الشعبية لـ”النظام”، أو في مناطق كانت بعيدة عن المعارك وانتشار المسلحين.
لذلك، فإن من غير المستبعد أن تضيف “إسرائيل” إلى قائمة أهدافها بعض الشخصيات السورية، التي تصنفها في خانة “الأعداء”، بحكم دور تلك الشخصيات في دعم الدولة السورية من ناحية، وعلاقاتها بمحور المقاومة من ناحية أخرى. وهذا ما حدث مع عملية اغتيال المناضلين سمير القنطار ومدحت الصالح وغيرهما.
لكن مع عملية اغتيال القاطرجي، تكون “إسرائيل” عززت أكثر القناعة الشعبية بمسؤوليتها المباشرة عن تنفيذ هذه العمليات في الأراضي السورية، وإن لم تُصدر بياناً بذلك.
فاستهداف السيارة، التي كان يستقلها القاطرجي، تمّ بصاروخ كبير وفي منطقة بعيدة تماماً عن وجود المسلحين، وتالياً ليس هناك أدنى شك بشأن المسؤولية “الإسرائيلية”.
كما أنها، بهذه العملية، تكون وسّعت دائرة الشخصيات المستهدفة لتشمل شخصيات نافذة، ومن خارج القائمة “التقليدية” المعتادة للكيان الصهيوني.
ما يدفع “إسرائيل” في هذه المرحلة إلى توسيع قائمة الشخصيات المستهدفة بالاغتيال في سوريا وغيرها هو “الدرس” الموجع، الذي تعلمته في الحرب التي لا تزال تشنها على قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر الماضي. فالحصار الخانق المفروض على القطاع منذ عام 2007 أثمر، بفضل العقول الفلسطينية، تعزيز فصائل المقاومة ترسانتها من الأسلحة النوعية وتكتيكات مواجهتها، كما أن استهدافها المستمر للأراضي السورية، منذ عام 2013، بحجة منع وصول الأسلحة المتطورة إلى حزب الله في لبنان، تبيّن عند أول مواجهة مع الحزب أن أهداف تلك الاعتداءات كانت عبثية، وأن الحزب تمكن بفضل كفاءاته وخبراته البشرية من تطوير منظومة متكاملة من الأسلحة الدقيقة.
لهذا، فإن الكيان الصهيوني يعمل اليوم، في موازاة تكثيف عمليات قصفه المدنيين والمنشآت والأحياء السكنية في غزة وجنوبي لبنان، على محاولة تصفية بعض الشخصيات القيادية في فصائل المقاومة، آملاً إضعاف الروح المعنوية للمقاومين على الأرض، والحيلولة دون استمرار عملية تطوير فصائل المقاومة قدراتها وإمكاناتها. وهذا ما ينطبق أيضاً على الحالة السورية عبر محاولة تحييد العناصر البشرية المؤثرة.
الجنون “الإسرائيلي”
لكن، إلى أي حد يمكن أن تذهب “إسرائيل” في حرب الاغتيالات تلك؟
تقدم “إسرائيل”، في عدوانها المستمر على قطاع غزة، صورة عن مستوى “الجنون” الذي وصل إليه قادة الكيان، سياسياً وعسكرياً، والذي أوصل المنطقة تالياً إلى حافة الاشتعال أكثر من مرة خلال الأشهر القليلة الماضية.
لذلك، فإن من الصعب توقع مستويات التصعيد التي يخططها قادة الكيان في مختلف الجبهات، سواء لجهة خريطة الأهداف المدنية والعسكرية المستهدفة، أو نوعية الشخصيات المراد اغتيالها.
لكن، تبقى هناك خطوط لا يمكن تجاوزها، وإن حدث فإن الرد عليها سيكون مغايراً أيضاً.
وهذا يمكن ملاحظته في الرد الذي أعقب الاعتداء على القنصلية الإيرانية في دمشق، وضبطه للجنون “الإسرائيلي”.
منذ ذلك الوقت لم يتم استهداف المستشارين الإيرانيين سوى مرة واحدة فقط. كما أن توسيع “تل أبيب” عدوانها على الأراضي اللبنانية كانت تقابله المقاومة الإسلامية بتوسيع دائرة الأهداف في الأراضي العربية المحتلة جغرافياً وعسكرياً، وهو الأمر الذي كان يلجم الجنون الصهيوني ويمنعه من الدخول في مغامرة اعتداء غير محسوبة ضد المقاومة.
ونتيجة معطيات متعلقة بتعدد الجبهات التي يعمل عليها الجيش السوري، فإن الرد السوري على الاعتداءات الإسرائيلية كان يأخذ أشكالاً غير مباشرة انطلاقاً من حقيقة أن فتح معركة مع “إسرائيل” اليوم ليس في مصلحة سوريا المنهكة بسبب حربها الطويلة.
فمثلاً، عندما كانت “إسرائيل” تبرر اعتداءاتها بمنع وصول السلاح إلى حزب الله، كانت دمشق تزيد في شحنات السلاح النوعية المتجهة إلى مستودعات الحزب. وعندما كانت تتحجج بالوجود الإيراني كانت دمشق توثق أكثر تعاونها العسكري مع طهران. لكن، كيف ستتعامل دمشق مع أي تصعيد “إسرائيلي” محتمل يطال شخصيات سورية معينة؟ لا أحد يعرف ماذا يمكن أن يجري.
أما موقف الولايات المتحدة الأميركية فهو ينطلق من ثابتين أساسيّين: الأول حرصها على استمرار الاعتداءات “الإسرائيلية” على مختلف الجبهات، كونها ورقة ضغط وعملية استنزاف لما تسميها الجبهات المعادية لمشروعها في المنطقة.
والثابت الثاني أنها، حرصاً على سلامة مصالحها وقواعدها العسكرية المنتشرة في دول المنطقة، بصورة مشروعة أو غير مشروعة، وهي قواعد تحولت مع تواطؤ إدارة جو بايدن في الحرب عل قطاع غزة إلى أهداف مشروعة لفصائل المقاومة في العراق وسوريا، فهي تحاول إدارة “الجنون” الإسرائيلي، وليس ردعه، على نحو يمنع انزلاق المنطقة إلى حرب شاملة أو الدخول في متاهات صراع واسع يُلحق أذى وضرراً كبيرين بالمصالح العسكرية والاقتصادية الأميركية في المنطقة.
ولواشنطن مصلحة مباشرة عبر العقود الماضية في كثير من الاغتيالات الشخصية التي نفذتها وتنفذها “إسرائيل” في المنطقة. مصلحة لا ترتبط بالتحالف الاستراتيجي الذي يربطها بـ”تل أبيب” فقط، بل بما تعدّه تهديد تلك الشخصيات لسياساتها في هذا البلد أو ذلك، أو تهديدها لحلفائها من بعض القوى السياسية والحركات الإثنية، أو من أجل إشعال النعرات الطائفية والمذهبية، التي تحول دون استعادة المنطقة استقرارها وتعافيها من ندوب الحروب الكثيرة التي مرت بها خلال العقود الماضية.
لهذا، فإن الأجهزة الأميركية كانت على الدوام مشاركة في التحضير والتنفيذ، سواء في جمع المعلومات الاستخبارية عن الشخصيات المستهدفة، عبر وسائل متعددة، أو في تقديم المشورة والخبرة من أجل إنجاح عملية التنفيذ.