مقالات
بين إدارة الهيمنة ومنطق التنازلات.. ماذا يُراد من لبنان؟

منذ أن طُرح خيار التفاوض بين لبنان والاحتلال الإسرائيلي، بدا المشهد وكأنه محاولة لإعادة صياغة قواعد الاشتباك في المنطقة، ولكن بأدوات سياسية ناعمة لا تقل خطورة عن الحرب المباشرة، فالتفاوض هنا لا يأتي في سياق توازن أو استقرار، بل في لحظة ضعف بنيوي يعيشها لبنان على المستويات كافة.
يقف لبنان اليوم على أرض شديدة الهشاشة: انهيار اقتصادي غير مسبوق، وتصادم سياسي، وضغوط خارجية تتكثف بوتيرة متصاعدة، وفي مثل هذا المناخ، يصبح أي انخراط تفاوضي محفوفًا بالمخاطر، إذ يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى انتزاع ما عجز عن تحقيقه في العدوان، مستخدماً لغة التهديد بالتصعيد، والابتزاز السياسي، واستثمار لحظة الوهن الداخلي.
الضغوط المفروضة على لبنان متعددة الأوجه: اقتصادية عبر شروط المساعدات، وسياسية عبر فرض أولويات خارجية، وأمنية عبر التلويح بالتصعيد، وإعلامية عبر إعادة تشكيل الوعي العام.
فالمساعدات الدولية لم تعد دعمًا بلا مقابل، بل باتت مشروطة بالانخراط في مشاريع “التعاون الإقليمي” وطرح مفهوم “الحياد” بصيغته المفروضة، فيما تُستخدم ملفات الطاقة والغاز كأدوات ضغط ناعمة لإدخال لبنان تدريجيًا في مسار التطبيع غير المعلن.
أما على المستوى السياسي-الأمني، فالاعتداءات مستمرة، لم تتوقف، ستثمر أي توترات على الحدود الجنوبية إعادة فتح ملف “حصر السلاح بيد الدولة”، في محاولة مباشرة لتفكيك معادلة الردع، وتهيئة الأرضية لفرض التفاوض من موقع ضعف، لا من موقع حماية السيادة.
ولا يقل دور الإعلام والثقافة خطورة عن باقي أدوات الضغط، إذ تتكثف حملات منظمة يقودها بعض السياسيين والإعلاميين لتسويق التطبيع كحل اقتصادي واستراتيجي، مقابل شيطنة المقاومة وتصويرها كعائق أمام “الازدهار” و”الانفتاح”.
إنها معركة على الوعي، هدفها دفع الرأي العام إلى تقبّل ما يُسمى “السلام الاقتصادي”، بينما جوهره الحقيقي سياسي واستراتيجي، يقوم على إضعاف الدولة وإدماجها ضمن منظومة خاضعة للهيمنة الأميركية-الإسرائيلية.
التجارب الإقليمية: التطبيع كأداة سيطرة لا كمدخل للسلام
التاريخ القريب في المنطقة يقدم شواهد واضحة، من كامب ديفيد إلى وادي عربة وصولًا إلى اتفاقيات “أبراهام”.
النمط واحد: الاحتلال الإسرائيلي لا يلجأ إلى التفاوض إلا عندما يفشل في تحقيق أهدافه عسكريًا، أو عندما يكتشف ثغرة في موقع الخصم، لتتحول الطاولة إلى ساحة انتزاع تنازلات استراتيجية طويلة الأمد.
في مصر، لم يكن اتفاق كامب ديفيد مجرد معاهدة لوقف الحرب، بل مدخلًا لإعادة إدماج القاهرة في منظومة النفوذ الأميركي، حيث تحولت المساعدات إلى أداة ضغط دائمة، وفُرضت قيود صارمة على الدورين العسكري والإقليمي لمصر. ومن هذا المنطلق، نجد أن التجربة الأردنية تحمل أوجه تشابه، لكنها تختلف في الشكل والمضمون.
في الأردن، وفّر اتفاق وادي عربة استقرارًا حدوديًا ومساعدات اقتصادية، لكنه جاء على حساب جزء من القرار السيادي، مع إخضاع الأمن الأردني لمراقبة دقيقة ضمن معادلة أميركية-إسرائيلية. ومع مرور الوقت، تحوّل هذا النمط من العلاقات إلى نموذج أكثر تعقيدًا في اتفاقيات “أبراهام”، التي حملت التطبيع إلى مستوى جديد.
فاتفاقيات “أبراهام”، نقلت التطبيع إلى مستوى أكثر عمقًا، حيث أصبح وسيلة لإدماج الاحتلال في البنى الاقتصادية والأمنية والتكنولوجية للدول العربية، وفي المقابل، بقيت مكاسب هذه الدول محدودة ورمزية: طائرات F-35 وضمانات أمنية للإمارات، اعتراف أميركي بالصحراء الغربية للمغرب، ورفع السودان من قائمة الإرهاب مقابل تطبيع اضطراري.
ورغم كل ذلك، لم تُترجم هذه الاتفاقيات إلى أي موقف فعلي داعم لغزة خلال الحروب الأخيرة، حيث اكتفت الدول المطبّعة ببيانات دبلوماسية خجولة، ما يكشف بوضوح أن التطبيع ليس طريقًا للسلام، بل أداة لتعزيز الهيمنة الإسرائيلية-الأميركية.
الأهم أن الاحتلال الإسرائيلي لم يتوقف يومًا عن استخدام هذه الاتفاقيات كغطاء لتوسيع مشروعه الاستراتيجي. بعد كامب ديفيد استمرت الاعتداءات على لبنان وسوريا وفلسطين، ومع وادي عربة توسعت المستوطنات، ومع “أبراهام” ازداد القصف على غزة شراسة. ما يؤكد حقيقة ثابتة: التفاوض، في العقل الإسرائيلي، ليس بديلًا عن العدوان، بل وسيلة لإدارته وتحقيق تفوق استراتيجي دائم.
لبنان بين منطق القوة وخيار التنازل
يقف لبنان اليوم عند نقطة مفصلية، حيث يُطرح خيار التفاوض بوصفه مسارًا محتملًا لمعالجة ملفات عالقة، لكن ضمن ميزان قوى غير متكافئ. ففي مثل هذه الظروف، يصبح الفارق جوهريًا بين تفاوض يُدار من موقع حماية السيادة والمصالح الوطنية، وآخر يعيد إنتاج تجارب إقليمية سابقة تحوّلت فيها الطاولة إلى أداة انتزاع مكاسب لمصلحة الطرف الأقوى، حتى غدا الاتفاق أخطر في نتائجه من استمرار المواجهة.
وتُظهر التجربة التاريخية أن العدو، حين يعجز عن تحقيق كامل أهدافه بالقوة العسكرية، ينتقل إلى أدوات بديلة لا تقل فاعلية، قوامها التفاوض والضغط المركّب. وفي هذا السياق، لم تعد الولايات المتحدة بحاجة إلى التدخل العسكري المباشر لترسيخ نفوذها، بل تعتمد منظومة متكاملة من الأدوات: مساعدات مشروطة، وبرامج تعاون وتدريب عسكري، واتفاقيات أمنية، وشراكات تكنولوجية، وربط البنى الدفاعية للدول العربية بالمنظومة الإسرائيلية.
إنها عملية إعادة تشكيل إقليمي يكون فيها أمن الاحتلال الإسرائيلي نقطة الارتكاز، فيما تُدفع الدول الأخرى إلى أدوار هامشية ضمن هذا الإطار.
السيناريوهات المحتملة لمسار التفاوض اللبناني-الإسرائيلي
توسيع التفاوض: أطراف إقليمية
أحد السيناريوهات المطروحة هو إشراك أطراف إقليمية، مثل مصر أو دول عربية أخرى، في العملية التفاوضية، بهدف توفير غطاء دبلوماسي أوسع. في هذا السياق، قد يتحول لبنان إلى محور لعبة إقليمية أكبر، تُفرض خلالها التزامات اقتصادية وأمنية طويلة الأمد، كما شهدت تجارب التطبيع السابقة. ومع أن هذا التوسع قد يبدو فرصة لتعزيز موقف الدولة، إلا أنه في الواقع قد يقيّد القرار السيادي، ويحوّل أي اتفاق إلى أداة لإعادة إدماج لبنان في منظومة النفوذ الإقليمي، محمّلاً إياه تبعات مصالح القوى الخارجية أكثر من مصالحه الوطنية.
تصعيد ميداني متقطع
في حال غياب أي وساطة فعّالة، قد تتواصل الاعتداءات والاغتيالات، ما يضاعف الضغوط الداخلية ويضع الحكومة في موقف صعب. هذا التصعيد الجزئي، رغم محدوديته الظاهرة، يخلق حالة مستمرة من التوتر وعدم الاستقرار، ويستنزف القدرات الأمنية تدريجيًا، كما يزيد الضغوط السياسية والاجتماعية المتعلقة بملفات حساسة، مثل مسألة تسليم السلاح وقدرة الدولة على فرض سيادتها. واستمرار هذا المناخ يعقّد أي جهود تفاوضية أو إصلاحية، ويحوّل لبنان إلى ساحة ضغط مستمرة، حيث يصبح أي رد فعل محفوفًا بالمخاطر الداخلية والإقليمية، وبينما يبقى لبنان محاصَرًا بهذه الضغوط، يزداد تعقيد أي جهود تفاوضية أو إصلاحية، ما يمهد الطريق أمام السيناريو الأكثر خطورة.
انهيار التفاوض وشن عدوان
السيناريو الأخطر يبقى انهيار أي مسار تفاوضي، ما يفتح الباب أمام عدوان إسرائيلي جديد، في ظل “هشاشة” إمكانات الدولة الدفاعية، وسيُستغل الفراغ الداخلي لتعزيز التفوق الإسرائيلي وفرض شروط استراتيجية أحادية الجانب. وبذلك، لن يكون العدوان مجرد مواجهة عسكرية، بل محاولة لإعادة رسم ميزان القوى الإقليمي، وإجبار لبنان على تقديم تنازلات جوهرية على المستويات السيادية والسياسية والعسكرية.
في خضم هذا الواقع المترنّح، يبدو لبنان محاصرًا بين منطق القوة الإقليمي ومنطق التنازلات الداخلية، ما يجعل أي تفاوض من موقع ضعف غير قادر على تعزيز السيادة أو الاستقرار، بل يحوّل الدولة إلى ساحة لصراعات الخارج.
في هذا السياق، يبرز دور المقاومة كعامل فاعل في حماية الدولة والحفاظ على كرامتها الوطنية، إذ لم تقتصر مهمتها على الدفاع العسكري، بل امتدت لتوفير قدرة على الردع تتيح للبنان الاحتفاظ بمساحة من القرار المستقل أمام الضغوط الإقليمية والدولية.
يحيى كلاكش-الميادين
المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع "صدى الضاحية" بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و"الموقع" غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك.



