تزداد الشكوك والتساؤلات يوماً بعد يوم عن قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على الصمود في الحرب المستمرّة منذ 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) لولا الدعم الأميركي – الغربي المباشر له، وبات ملازماً عند ذكر هذا الاقتصاد ربطه بالقول الشهير: “أوهن من بيت العنكبوت”.
وأضحى هذا الأخطبوط الاقتصادي الذي أنشأه الغرب كقاعدة متقدّمة له في الشرق للسيطرة على خيرات المنطقة، وفي مقدّمتها مصادر الطاقة، وفرض نماذج اقتصاديّة إخضاعيّة لدول الطوق تحت عنوان الاستعمار السياسي الاقتصادي، في خطر.
إنّ الخضوع لـ”إسرائيل الاقتصاديّة” الذي فرضه الغرب على شعوب الشرق الأوسط في مقابل السماح لها بالتنفّس قليلاً انتهى بعد “طوفان الأقصى”. وبعد أكثر من 200 يوم من الحرب، باتت هناك حقيقة لا بدّ من الحديث عنها، هي أنّ وحدة الساحات من فلسطين إلى اليمن وجنوب لبنان استطاعت شلّ هذا الاقتصاد بنسبة 60% على الأقلّ.
1- انخفاض النمو وارتفاع الدين العام والعجز المالي
· النمو: وفقاً لتوقّعات وزارة المال الإسرائيليّة وتقارير موقع “غلوبز” وصحيفة “كالكاليست” الإسرائيليين، إضافة إلى إحصاءات المصرف المركزي، فإنّ نسبة النمو وصلت إلى حدود الصفر في المئة، وهذا ما لم يشهده الكيان منذ تأسيسه، ما يؤكّد توقعات شركات التصنيف الدوليّة بشأن صعوبات إيجاد استثمارات في هذا الاقتصاد، وأنّ الناتج المحلي الذي كان يعادل 550 مليار دولار قبل الحرب لم يعد قابلاً للاستمرار بهذا المستوى بعدها، بل سينخفض بشكل كبير.
· الدين العام: كل التقديرات والتوقعات الماليّة تشير، بحسب تقرير المصرف المركزي ومركز الإحصاء الإسرائيلي، إلى أنّ الدين العام الداخلي ارتفع من 60.5% إلى 66% من الناتج المحلي، أي من 300 مليار دولار في نهاية العام 2023 إلى 360 مليار دولار حاليّاً. وجرت العادة الاقتصاديّة أنّ الإجراء الأوّلي لهذه الحالات يكون بخفض الإنفاق، فهل يتحمّل المجتمع المتطرّف هذا الأمر؟
· العجز المالي: مضحك أن يتباهى بنيامين نتنياهو بامتلاك اقتصاد قويّ لا يتأثّر بالحرب، في وقت ارتفع العجز المالي لدى الكيان ليصل إلى 8% من الناتج المحلي، ويتخطى مبلغ 32 مليار دولار لأوّل مرة في تاريخه.
في النتيجة، نمو صفر يعني شللاً اقتصاديّاً استثماريّاً وجموداً داخليّاً ينعكس في معدّلات البطالة وارتفاع الأسعار وضعف القدرة الشرائيّة. كما يعني استدانة وفوائد مرتفعة، إذ بات الكيان بحاجة إلى استدانة 35 مليار دولار لتسكير العجز.
2- ميزانيّة الحرب وتأثيراتها
للمرّة الأولى منذ تأسيسه، تتأخّر ميزانيّة الكيان عن موعد صدورها بعد نقاشات وخلافات كبيرة وخطورة فزلكة الموازنة وتوجّهات تطال بتأثيراتها الضرائب ومستقبل الاقتصاد الترفيهي. وقد أُدخل بند التمويل الإضافي إلى الموازنة بالشكل التالي:
– زيادة ضريبيّة اضطرت مصلحة الضرائب إلى فرضها لتغطية العجز، أدت إلى رفع الضريبة على القيمة المضافة من 17% إلى 18%، ورفع الضريبة على الأرباح إلى 26%، وهذه معدّلات تظهر للمرّة الأولى أيضاً في تاريخ الكيان.
إنّ الحالة التي وصل إليها الكيان والزيادات الضريبيّة أثّرت سلباً في المجتمع الصهيوني، ما فتح الطريق أمام التفكير في الهجرة المعاكسة. ووفق الإحصاءات، فرّ 450 ألفاً من أصل 900 ألف يمتلكون جنسيات مزدوجة إلى الخارج. كما فضّل أصحاب رؤوس أموال إسرائيليون نقل أعمالهم إلى بلدان أخرى، منها قبرص، هرباً من اللااستقرار والضرائب الهائلة.
3- النفقات وتأثيرات الضربة الإيرانيّة
نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن المستشار الاقتصادي لرئيس الأركان الإسرائيلي أنّ الكيان أنفق 1.35 مليار دولار خلال ليلة واحدة للتصدي للهجوم الإيراني، مع التأكيد أنّ هذه الكلفة تشمل التصدي للمسيّرات والصواريخ فقط من دون إدراج الخسائر الميدانيّة، بحيث وصلت كلفة كل صاروخ من نظام “آرو” المعد لاستهداف الصواريخ البالستية إلى 3.5 مليون دولار، وكل صاروخ من نظام “مقلاع داوود” الخاص باعتراض صواريخ “كروز” إلى مليون دولار.
وفي تعليق على تأثير الضربة الإيرانيّة، يقول مصرف “غولدمان ساكس” الاستثماري الأميركي إنّ التوترات الجيوسياسية المستمرة ستزيد عدم الثقة الاستثمارية في الكيان الإسرائيلي، وسيُصبح تلقائياً وجهة غير آمنة للمستثمرين، حتى إنّ مشاهد الازدحام في المطارات للمستوطنين الهاربين من المخاطر تثبت وجهة النظر نفسها: الكيان لم يعد مكاناً صالحاً للاستثمار.
4- الكلفة العسكريّة
بلغت كلفة المساعدات العسكريّة الأميركيّة المباشرة 47 مليار دولار لمصانع الأسلحة، بحسب بيانات وزارة الدفاع والكونغرس الأميركيين، إذ حصل كيان العدو على 3 دفعات من المساعدات العسكرية: 14 و9 و24 مليار دولار، بمعدّل 270 مليون دولار كلفة عسكريّة مباشرة يوميّاً.
5- الخسائر الاقتصاديّة المباشرة
وفقاً للتقديرات الصادرة عن وزارة الاقتصاد الإسرائيليّة، فإنّ الخسائر الاقتصاديّة المباشرة على الأسواق بلغت 800 مليون دولار أسبوعيّاً، وقُدّرت الخسائر المباشرة بـ28 مليار دولار حتى الآن. وأظهر تقرير حديث للمصرف المركزي أنّ كلفة الحرب على غزّة وصلت إلى 67 مليار دولار من دون جبهة لبنان، وأنّ الأضرار الماديّة في منطقة غلاف غزّة تقدّر بـ5.5 مليارات دولار لم يتمّ تعويض أي شيء منها إلى يومنا هذا.
6- التصنيفات الماليّة
لم يحدث سابقاً لاقتصاد انخفض تصنيفه الاقتصادي والمالي إلى A- من AA+ من قبل شركات عالميّة وأميركيّة، وبالتحديد من قبل “موديز” و”ستاندرد أند بورز” و”فيتش”، بهذه السرعة وحكماً نتيجة الحرب. ولم يكن أكثر المتشائمين يتوقّع خفضاً كهذا، لكن كان واضحاً أنّ جبهة الشمال أدت إلى ضربة اقتصاديّة كبرى لم تكن بالحسبان. ونتيجة هذا التصنيف:
– ارتفعت أسعار الفائدة إلى 4.5% بعدما لم تكن تتجاوز 1%.
– تأثّر الاستثمار سلباً، فتوقّفت مشاريع استثماريّة بقيمة 15 مليار دولار في قطاع التكنولوجيا الفائقة، إضافة إلى قطاعات أخرى، فارتفاع الفوائد مع خفض في التصنيف يؤدي إلى حذر شديد في ضخّ المال الاستثماري.
– وصل الانكماش الاقتصادي إلى 19.4% في الربع الرابع من العام 2023، مع تحذير وكالة “بلومبيرغ” الأميركيّة بأن يبلغ الانكماش بالمجمل العام 11% إذا استمرّت الحرب، ما يعني تراجعاً في الناتج المحلي قد يتخطى 100 مليار دولار.
– تأثّر إصدار السندات الخارجيّة، وتخطّت فوائدها نسبة 8% لإقناع المكتتبين، وفقاً لموقع “كالكاليست” الاقتصادي، الذي لفت إلى ضرر كبير جدّاً أصاب مصارف الكيان وثقة السوق بها.
– اضطرّ المصرف المركزي إلى ضخّ 45 مليار دولار في السوق لدعم الشيكل في الفترة الأولى، ثم ضخّ أموالاً بقيمة أكبر من دون الإعلان عنها، إلّا أنّ هذا لم يمنع العملة الإسرائيليّة من فقدان 6% من قيمتها، ولم يحمها من التعرّض لنكسات أكبر من جرّاء الحرب.
– شهدت الأسواق المالية الإسرائيليّة (البورصة) خسائر وصلت إلى 20 مليار دولار، وتراجعاً كبيراً في أسهمها في التداول داخليّاً، ترافق مع التخبط الذي تعانيه معظم القطاعات الإنتاجيّة، وخصوصاً البناء والمرافئ والنقل.
7- ميناء إيلات
أصيب ميناء إيلات الاستراتيجي بشلل كامل بعد تغيير شركات الشحن العالميّة مسار السفن لتجنب هجمات اليمنيين، وبات نصف عماله مهددين بالطرد من جراء الأزمة الماليّة الكبيرة التي أصابته.
يعد هذا الميناء منفذ العدو الوحيد إلى البحر الأحمر، ويوفّر له بوابة إلى الشرق من دون الحاجة إلى الملاحة في قناة السويس.
وعبر ميناء إيلات، يمرّ نحو 5% من تجارة الكيان، وما يقارب 50% من تجارة المركبات فيه، وتصل عمليات المناولة في الميناء إلى مليوني و100 ألف طن من البضائع الجافة، و70 ألف سيارة، و50 ألف حاوية سنويّاً. ويُصدّر عبره الفوسفات والبوتاس والمعادن والخامات، ويتمّ استيراد النفط والأخشاب ومواد البناء والمواد الغذائية والمركبات من خلاله. كما يشكّل الميناء منفذاً بحريّاً مهمّاً للركاب، ولا سيما السياح الذين يفِدون إلى المدينة بعدد يقارب مليون شخص سنوياً.
8- قطاع السياحة
انخفض عدد الرحلات الجوّية الخارجيّة على مستوى السياحة من 5000 إلى ما دون 2000 رحلة، وتراجع عدد السياح الأجانب من 3.9 ملايين إلى 39 ألف سائح في فصل السياحة الشتويّة والدينية. وذكرت صحيفة “جيروزاليم بوست” أنّ انخفاض قطاع السياحة نتيجة الحرب وصل إلى 82% بمعدّل عام. أما موسم التزلّج في الشمال، فقد شُلّ بنسبة 99%، كاشفة أنّ استمرار هذا الواقع في العام 2024 سيكبّد القطاع السياحي خسائر تفوق 20 مليار دولار.
9- قطاع البناء
الضرر الذي أصاب قطاع البناء والإسكان وصل إلى 72% بمعدّل عام، أي أنّ خسائره وصلت في نهاية العام 2023 إلى 7 مليارات دولار. ومع تخلّف قروض الإسكان التي تخطّت 299 ألف قرض، ومع استمرار مقاطعة 140 ألف عامل فلسطيني لهذا القطاع، تُقدّر الخسائر للعام 2024 بنحو 3% من الناتج المحلي، أي 15 مليار دولار إضافية.
10- قطاع التكنولوجيا
التراجع في صناعة التكنولوجيا و”الهاي تك” وصل إلى 7.3% في بداية الحرب، فقد خسر هذا القطاع 5.5 مليار دولار من أصل 71 مليار دولار في الأسبوع الأوّل. وبحسب “جيروزاليم بوست”، فإنّ 50% شركات التكنولوجيا لا تعمل بشكل كامل، و30% منها تعاني صعوبات في التشغيل. كما انخفض الاستثمار في القطاع بنسبة 18% تعادل 15 مليار دولار، مع العلم أنّه يشكّل 50% من الصادرات و35% من الإيرادات الضريبيّة و25% من القوى الإنتاجيّة و18% من الناتج المحلي.
11- قطاع الزراعة
يشكّل قطاع الزراعة 95% من الاحتياطات الغذائيّة للكيان الإسرائيلي، و5% من الناتج المحلي. كما يشكّل 40 % من موارد مستوطني الشمال ومداخيلهم، إذ فقد بالفعل نحو نصف قوّته الإنتاجيّة و60% من المساحات.
وفي العموم، أثّر بشكل سلبي في الصناعة الغذائية التي تراجعت بنسبة 56%، ووصلت خسائر القطاع في نهاية 2023 إلى 4.8 مليار دولار، وحالياً إلى 8.7 مليار دولار.
في الختام، الجردة طويلة، والنتائج ستشكّل عنوان المرحلة المقبلة، لكن النتيجة المهمّة أنّه ولأوّل مرّة منذ العام 1948، هذا الاقتصاد الغريب الذي يريد أن يحتلّ ويستعمر اقتصاداتنا ودول الطوق، وأن يستولي على خيرات المنطقة، فقد الأمان والاستمراريّة، وأصيب بنكسة قد تكون تداعياتها على وجود هذا الكيان مدمّرة في السنوات الآتية. وقد أثبت الميدان أنه بعد 200 يوم يحاصر الاقتصاد الإسرائيلي.