نظم “المركز اللبناني للعدالة” في مقره بطرابلس، ندوة حوارية بعنوان “المواطنة والدستور: الانتظام المفقود”، في إطار سعيه لإطلاق حوار بناء حول “المواطنة وإشكالية الانتماء الوطني في لبنان”، حاضر فيها المدير السابق لكلية الحقوق في الجامعة اللبنانية الدكتور محمد علم الدين، وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة الدكتور إيليا إيليا، وأدارتها المحامية نرمين الأحمد.
حضر الندوة: النائب السابق الدكتور علي درويش، القاضي نبيل صاري، قائمقام بشري ربى شفشق، الاميرال نزيه بارودي، النقيب السابق نبيل فتال، رئيس لجنة التراث في بلدية طرابلس الدكتور خالد تدمري، مدير الشؤون الدينية في دار الفتوى الشيخ فراس بلوط، رئيس لقاء الأحد الثقافي الدكتور أحمد العلمي، رئيس الرابطة الثقافية رامز فري، مدير عام دار العلم والعلماء الدكتور عبد الرزاق قرحاني، رئيسة الاتحاد العربي للمرأة المتخصصة ناريمان الجمل، مسؤولة قطاع المرأة في تيار العزم جنان مبيض، الدكتورة غادة صبيح، مديرة مكتب مؤسسة مخزومي في طرابلس سمر الخشمان، رئيسة الجمعية اللبنانية للإصلاح والتأهيل فاطمة بدرا، رئيسة فرع الشمال في المنتدى الدولي للشباب هنادي مشرف، إضافة الى أعضاء المركز اللبناني للعدالة، وحشد من الفعاليات الاجتماعية والثقافية والطلاب.
بعد النشيد الوطني، عرفت مديرة الندوة المحامية نرمين الأحمد ب “المركز اللبناني للعدالة ورؤيته ومبادئه”، ثم كانت كلمة لرئيسة المركز الدكتورة عائشة فتحي يكن، قالت فيها: “نطلق اليوم سلسلة من الندوات الحوارية التي تهدف إلى إيجاد قواسم مشتركة تساهم في إعادة اللحمة إلى وطن يعاني من انقسام عمودي حادّ وتفسّخ في نسيجه الاجتماعي الذي يتبدى عند كل قضية مهما صغر حجمها ويستدعي المطالبة بالتقسيم والفديرالية ورفع الأسوار والمتاريس حول المناطق وينذر بحرب أهلية. الأمر الذي يجعلُنا نتساءل بعد مرور 100 عام على تأسيسه عن هوية لبنان ودوره ورسالته.. فهل المشكلة هي مشكلة دستور وقوانين، أم أنها مشكلة تطبيق وتعطيل وتجاوز واستنسابية؟ أم أن المشكلة تكمن في المواطن وفي فهمه للمواطنة! فما هي المواطنة! وما هي متطلباتها، وهل سيساهم توفرها في تعديل دستوري، او صياغة بناء سياسي جديد؛ وهل سيؤدي ذلك الى قيام وطن حقيقي؟ هذه الأسئلة حول المواطنة والوطن والمجتمع العادل الذي يتساوى فيه الجميع ستشكل محاور للنقاش في الأشهر المقبلة”.
ثم كانت كلمة للأحمد أشارت خلالها إلى أن “الندوة تندرج في إطار تحديد مفهوم المواطنة الذي يرجع في أصوله إلى اليونان، التي رهنت المواطنة بالمشاركة في الانتخابات والمساهمة في سن القوانين، خاصة أنه قد ورد حديثاً أن المواطن هو الشخص الخاضع لقوانين الدولة، والمتمتع بالحقوق المدنية والسياسية، والمتحمل في آن معاً للواجبات إزاء الدولة”.
وأشارت الأحمد إلى “المتغيرات السياسية والاقتصادية التي مر بها لبنان منذ تأسيسه ككيان مستقل، والتي كان من شأنها جعله حلبة صراع لتنفيذ مخططات تخدم مصالح دول معينة، بغض النظر عن المصلحة اللبنانية، وبالتالي تعرقل العيش المشترك في الممارسة العملية، وعدم تطبيق الدستور بالتالي”.
بعدها، تحدث الدكتور علم الدين، مؤكداً أن”قضية المواطنة لم تأخذ حقها في النقاش، لأن جماعة الحكم مستفيدون من “الستاتيكو” القائم بعد قرن من الزمن”، مستعرضاً جملة من” الأسئلة التي تعرض للعلاقة بين الدستور والمواطنة، وهذه الأسئلة هي: هل هناك في الدستور ما يحول دون المواطنة بمعناها الشامل؟ وإذا كان كذلك فالأمر يحتاج إلى نداء لتعديل الدستور، رغم الدعوات لتطبيقه قبل تعديله”.
أضاف: “أما السؤال التالي: فهو هل أن تاريخ لبنان السياسي والاقتصادي وتركيبته السوسيوسياسية، ما جعل العلاقة بين المواطن والدستور، والقوانين المندرجة تحته، علاقة ملتبسة في أحسن الأحوال؟ وهل هناك تأثير متبادل بين المواطن والدستور، ما يؤثر على الانتظام العام وعلاقة المواطن بالدولة؟ ومن ثم، ما قيمة المواطن دون وطن؟”.
وخلص علم الدين إلى أن” هذا الالتباس سببه أن الفئة الحاكمة تتصرف عبر التاريخ على أنها “تملك وتحكم”، وبالتالي فهي تحكم وتتحكم، ما يؤدي إلى إضعاف أو تحلل ما يسمى بالانتظام العام”.
وشدد على” ضرورة التزام المواطن بواجباته تجاه بلده، وما يتعلق باستخدام القوانين في ما يتعلق بالصالح العام، خاصة وأن هذا المصطلح “مطاط” في لبنان إلى درجة كبيرة”.
وأشار إلى “جملة من القيم التي تمثل المواطنة الصالحة، أننا بحاجة إلى عناصر فاعلين ونشطين، يمكنهم النظام العام من أن يؤدوا أدوارهم كما يجب، ويضبط الإيقاع وفق آليات معينة متفق عليها في الدستور”.
وتساءل علم الدين:” هل المشكلة في الدستور أو في تطبيقه؟ داعياً إلى مقاربات تحليلية للمواد الدستورية بما يؤدي إلى تصويب مسار الدولة”.
أما أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدكتور إيليا إيليا، فقد اعتبر أن” المشكلة في لبنان تكمن في عدم إمكانية إعادة إنتاج السلطة نتيجة الزبائنية السياسية”.
وشدد على “ضرورة التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، لايجاد آلية فعالة لحماية حقوق المواطنين ومعاقبة الفاسدين والمنتهكين لحقوق المواطنين”.
ولفت إلى “جملة من التداعيات لغياب الانتظام العام، منها التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومن أهمها البطالة المستشرية، وتدهور الخدمات العامة، إضافة إلى زيادة الفقر والتفاوت الاجتماعي وتفاقم الهجرة”.
وتطرق إيليا إلى “الدعوات التي تنطلق من هنا وهناك للفيدرالية تارة، والدولة المدنية تارة أخرى، والمؤتمر التأسيسي”. مفندا كلا من “هذه الخيارات، وأهمها الفدرالية التي تتطلب توافقا على السياسات الدفاعية والمالي، وهو ما نفتقر إليه في لبنان تحديدا”.
وأكد أن “الدستور اللبناني هو الوحيد الذي يجمع اللبنانيين”، مؤكداً ان” الدولة في لبنان لديها مهمة أساسية لم تقم بها الحكومات المتعاقبة وهي توحيد المواطنين متعددي الانتماءات، وخلق قناعة لدى المواطين بأن الدولة ضمانتهم وليس الزعيم”.
ورأى أن “هناك حاجة إلى إصلاحات تدحض الغموض في النص الدستوري دون المس بمبدأ التوافق”.
وعرض إيليا” جملة من الإصلاحات التي رأى وجوب تطبيقها لبناء الدولة في لبنان، وفي مقدمتها إيضاح النقاط الدستورية التي يمكن استغلالها لمصالح طائفية بعيداً عن المصالح الوطنية العليا”.
وفي مداخلة له، أكد النائب السابق الدكتور علي درويش أن “لبنان محكوم بتوازنات التاريخ والجغرافيا، إضافة إلى صيغة المحاصصات التي توضحت بعد الحرب اللبنانية ودخول الميليشيات إلى الدولة. صحيح أن هناك انحلالاً في الدولة، ولكن لا يمكننا القول بغياب الدولة بشكل تام، لأن ذلك يؤدي إلى سيادة شريعة الغاب حتى في أبسط يومياتنا”.
وتساءل: “كيف نخرج من هذا الأمر؟ ومن يبادر في الخروج من الأزمات في ضوء التحاصص الذي تحدثنا عنه؟ لا شك أن ذلك لن يكون إلا من خلال المؤسسات، وفي طليعتها الانتخابات النيابية.
وفي هذا الصدد، لا بد من الإشارة إلى اننا خلال ولايتنا النيابية عملنا على ستة وعشرين مشروع قانون، سواء على مستوى طرابلس، أو على المستوى الوطني العام بما يختص بالمرأة ومساعدة المرأة اللبنانية على اكتساب جنسيتها أو التخفيف من وطأة حرمانها من ذلك”.
وتابع درويش:” لا شك أن إقرار اللامركزية وإنشاء مجلس الشيوخ من شأنه إحداث نقلة نوعية في البلاد، ولكن في ظل المخاض الذي نعيشه في المنطقة، ونظراً لضعف المناعة الداخلية اللبنانية، فإن التقارب في منطقة الشرق الأوسط ينعكس إيجاباً على لبنان، مع التركيز على دور النخب المجتمعية في بلورة مشاريع فعلية ظاهرة للعيان”.
بدوره، شدد رئيس لجنة التراث في بلدية طرابلس الدكتور خالد تدمري على أن” اللبنانيين يواجهوا إشكالية الانتماء للوطن، وبالتالي، قبل دراسة إمكانية الخروج بدستور جديد، فعلينا الوقوف على درجة انتماء اللبناني لوطنه بعد كل ما شهده من أزمات”.
وأكد تدمري أن “هذا الأمر خلق امتداداً للبنانيين خارج لبنان، سواء روحياً أو سياسياً، أضف إلى ذلك، فإن عناصر الطبقة الحاكمة يمتلكون جنسيات أخرى خارج البلاد وبالتالي فإنه عند أي خضة يستطيعون ببساطة مغادرة البلاد”.
وتساءل: ” هل لبنان هو ساحة أم وطن”؟ مؤكداً أن “المؤسسين الأوائل كانوا حريصين على إبقاء لبنان خارج إطار الصراعات، ولكن السياسيين الحاليين هم قادة حرب بالدرجة الأولى، يتناتشون المصالح في ما بينهم، ما يعيق بروز أي انتماء وطني، يشكل قاعدة لنقاش في المسائل الدستورية الأخرى”.
ختاما، كانت سلسلة مداخلات من الحضور تناولت آليات ومحددات قيام الدولة الحقيقية في لبنان، والمعوقات التي تحول دون ذلك، إضافة إلى دور النخب الثقافية والسياسية في بلورة نظام حديث ومتطور، دون المس بقواعد العيش المشترك والتواق الداخلي التي شكلت ولا تزال، أساس الكيان اللبناني.