مقالات

عام من النزوح القسري.. وذاكرة البيوت لا تموت!

“البيت” ليس مجرد جدران تقينا حر الصيف وبرد الشتاء، إنما هو ذاكرتنا الأولى، يحمل في خباياه أصوات أول كلماتنا وأولى خطواتنا التي لا نذكرها، رائحة القهوة في الصباح، سهرات العائلة والأصدقاء. هو المكان الذي نكبر فيه ويكبر معنا، نخبئ في زاوياه صور من بقوا، وملامح الذين رحلوا.

أن يترك المرء بيته قسرًا، يعني أن ينسلخ عن ذاته أو أن يُقتلع من تاريخه الشخصي، من شعوره بالأمان، من تفاصيله الصغيرة التي تُضفي على حياته معنى.

خلال العدوان الصهيوني الأخير على لبنان، لم تُقصف بيوتنا فقط، بل قُصفت فكرة الاستقرار نفسها، وتحولت الذاكرة الجماعية إلى ركام.

في لحظةٍ وجد الناس أنفسهم نازحين إلى مناطق غريبة عنهم، يحملون في حقائبهم ما تبقى لهم من حياة، تاركين خلفهم بيوتهم المدمرة، وذكرياتهم التي لا تعوض بثمن.

في هذا السياق، تسرد سناء إسماعيل، في حديثٍ خاص لموقع “الجريدة”، معاناة عائلتها منذ 8 تشرين الأول 2023، حين اضطرت للنزوح من بلدة ميس الجبل الجنوبية، لتبدأ رحلة نزوح لم تنتهِ حتى اليوم. خسرت سناء منزلها، وخسر زوجها مطعمه، فيما فقد ابنها محله، وانتقلت العائلة إلى بلدة جويا خلال حرب الإسناد.

في البداية، تلقت العائلة بعض المساعدات، وسكنت في منزل شقيقها المسافر، قبل أن تضطر للبحث عن مسكنٍ آخر مع عودته إلى لبنان. ومع توسّع رقعة الحرب، نزحت سناء إلى سوريا لمدة 33 يومًا، إلا أنّ تدهور الوضع الأمني هناك أجبرها على العودة إلى لبنان والاستقرار في منطقة جدرا.

وعند انتهاء الحرب، عادت إلى جويا لتكتشف أنّ المنزل الذي كانت قد استأجرته تعرّض للقصف.

قالت سناء: “اضطررت لبيع ما أملكه من ذهب كي نتمكن من العيش، بعدما عجز زوجي وابني عن إيجاد أي عمل لفترة طويلة”، مؤكدةً أنّها لم تتلقَّ أي مساعدة، خلافًا لما حصل خلال حرب الإسناد، مشددةً على أنها لم تحصل على أي تعويض مالي أو بدل إيواء من أي جهة.

وقالت بحسرة: “النزوح قاسٍ جدًا. تركنا منزلنا على عجل فيما الصواريخ تتساقط كالمطر، ولم نأخذ معنا شيئًا. انتقلنا بين بيوت كثيرة، وخسرنا الاستقرار الذي كنا نعيشه. كنا نملك بيتًا أشبه بالفيلا ومطعمنا الخاص ووضعنا المادي كان جيدًا، أما اليوم فنحن مضطرون لبدء حياتنا من الصفر”.

وأضافت أنّ كثرة التنقل والمعاناة جعلتها تنسى الكثير من التفاصيل، وأدخلتها في شعورٍ دائم بالضياع، قبل أن تنهي حديثها باكيةً، غير قادرة على المتابعة.

بدورها، حُرمت الصحافية سكينة السمرة، من بلدة كفركلا الحدودية، من زيارة مسقط رأسها منذ اندلاع الحرب عام 2023، بعدما حوّل العدوان الإسرائيلي البلدة إلى منطقة مدمّرة وغير صالحة للسكن، إذ لم يبقَ سوى عددٍ قليل من البيوت، معظمها محروق.

ترى سكينة أنّ المكان لا يُختزل بالحجارة، بل هو ذاكرة جماعية وهوية، مؤكدةً أنّ “الخسارة المعنوية التي لحقت بأهالي القرى الحدودية لا يمكن تعويضها، حتى لو جرى التعويض ماديًا، فالناس خسروا ذكرياتهم، وتُركوا لمصيرهم”.

وعلى المستوى الشخصي، تزور سكينة الجنوب، لكنها تعجز عن الوصول إلى كفركلا بسبب الوضع الأمني والاعتداءات الصهيونية المتكررة، وتقول لموقع “الجريدة”: “مهما زرت أماكن مختلفة، لا يمنحني أيّ مكان الشعور الوجودي الذي تمنحني إياه كفركلا. الهواء، والنَّفَس، والألفة.. لا نجدها إلا في جذورنا وأرضنا وبيوتنا”.

وأكثر ما يجعلها تشعر بالقهر، هو حرمانها من زيارة قبور من تحبهم، والتواجد في الأماكن التي كانت تتواجد فيها معهم قبل رحيلهم، وكأنها خسرتهم مرتين، مرةً حينما رحلوا، ومرةً حينما حرمها الاحتلال من زيارتهم.

أما عن حكايات الصمود والتمسك بالجذور، فتروي الصحافية أمل فارس لموقع “الجريدة” قصة عودتها مع عائلتها إلى منزلهم المدمر في الضاحية الجنوبية لبيروت. ففي اليوم الأول لدخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، في 27 كانون الثاني 2024، عادوا ليجدوا أنّ نحو نصف البيت قد دُمِّر، والنصف الأخر تضرر بشكل كبير، وبات غير صالح للسكن.

وقالت: “قررنا التمسك ببيتنا، وبدأنا العمل في المنزل، رافضين العودة إلى مكان النزوح، إنما بتنا في المنزل نفسه”، مضيفةً: “عانينا كثيرًا، كانت مياه الشتاء تتسرب إلى الداخل بسبب النوافذ المكسورة، والجدران المتضررة، كما عانينا انقطاع الغاز لعدة أيام”.

وفي الوقت نفسه، واصلت أمل وإخوتها دراستهم داخل المنزل، رغم انعدام الحدّ الأدنى من المقوّمات التي تتيح بيئة تعليمية سليمة. غير أنّ تمسّكهم بالبيت، بوصفه مساحة أمان وانتماء، شكّل دافعًا كافيًا لتجاوز الصعوبات ومواجهة التحديات اليومية.

ووسط هذا الخراب الإنساني، لا تزال آلاف العائلات رازحة تحت ثقل النزوح وغياب أي أفق واضح للعودة، في ظل مماطلة الدولة اللبنانية في إطلاق ورشة جدّية لإعادة الإعمار.

ومع مرور الوقت، تحوّل الانتظار إلى عبءٍ يومي، يدفع ثمنه الناس الذين خسروا بيوتهم ومصادر رزقهم، ويعيشون بين الإيجارات المرتفعة والاعتماد على مساعدات شحيحة أو معدومة.

هذا التأخير لا ينفصل عن واقع الحصار المالي المفروض على “حزب الله”، والذي انعكس مباشرةً على قدرته في دعم المتضررين كما في محطات سابقة، إضافة إلى رفض الدولة اللبنانية قبول أي مساهمة إيرانية في إعادة الإعمار، ما أبقى الملف رهينة التجاذبات السياسية والحسابات الخارجية.

وبين هذه المعادلات، يقف المواطن وحيدًا، بلا سقفٍ يحميه ولا خطةٍ تطمئنه، يدفع ثمن الحرب مرتين، وإعمارٍ لم يبدأ، فيما يتحوّل حقه الطبيعي بالعودة إلى بيته إلى ورقة تفاوض مؤجلة على طاولة السياسة.

في لبنان، لا يُختزل البيت بجدرانٍ مهدّمة أو سقفٍ غائب، إنما هو هوية وامتداد للذات وذاكرة لا تمحى بالقصف.

ما خلّفه العدوان الإسرائيلي لم يكن دمارًا عمرانيًا فحسب، بل جرحًا عميقًا في الوعي الجماعي، ونزفًا مستمرًا في تفاصيل الحياة اليومية للنازحين المحرومين من بيوتهم. وبين قصص الفقد والنزوح، تتجلّى حكايات الصمود والتمسك بالجذور كفعل مقاومة بحد ذاته، يؤكد أن الإنسان، مهما قُلع من مكانه، يبقى مشدودًا إلى بيته الأول. فإعادة الإعمار الحقيقي لا يبدأ بالإسمنت والحجارة، إنما باستعادة الحق في الأمان، والذاكرة، والقدرة على الحلم بحياة طبيعية تليق بمن فقدوا كل شيء ولم يفقدوا انتماءهم. وبين وعود الإعمار وواقع النزوح المستمر، متى يصبح الحق في البيت أولوية وطنية، لا مجرد رقم في لوائح التعويض؟

| سامية إسماعيل |

المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع "صدى الضاحية" بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و"الموقع" غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى