مقالات

أزمة المياه في لبنان… فشل الحكومة أخطر من التغيّر المناخي

لطالما قُدّم لبنان بوصفه استثناءً مائيًا في شرقٍ أوسط يعاني من العطش البنيوي، غير أنّ هذا التصنيف لم يمنع تحوّل المياه إلى أحد أكثر مظاهر الإنهيار وضوحًا فيالدولة اللبنانية.

فالبلد الذي يُفترض أن يمتلك فائضًا نسبيًا من الموارد المائية، يعيش اليوم أزمة أمن مائي مكتملة الأركان، تتجلى في الانقطاعات الطويلة، وتدهور النوعية، وارتفاع الكلفة، وتنامي الاعتماد على السوق الخاصة.

وعلى نحو لافت، لا تزال هذه الأزمة خارج سلّم الأولويات في النقاش العام، رغم أنّ خطورتها البنيوية لا تقل عن أزمة الكهرباء، بل تفوقها تعقيدًا وصعوبة في المعالجة.

في هذا السياق، لفت وزير الطاقة والمياه جو صدي خلال رعايته ندوة حول الأمن المائي في لبنان إلى مفارقة كاشفة في الوعي العام، مشيرًا إلى أنّ السؤال الذي يُلاحقه يوميًا يتعلق بالحصول على كهرباء 24/24، فيما نادرًا ما يُسأل عن المياه، رغم أنّ أزمة هذا القطاع، وفق توصيفه، أكثر تعقيدًا من أزمة الطاقة.

ورغم هذا التشخيص القاتم، شدّد صدي على أنّ الأزمة لا تُقفل باب الفرص، معتبرًا أنّ التغيير لا يمر عبر السياسة التقليدية، بل عبر المعرفة العلمية، والإصلاح المؤسسي، والحلول المبتكرة القابلة للتنفيذ.

في جوهر المشكلة، لا يعاني لبنان من ندرة مائية بالمعنى الجغرافي أو المناخي، بل من غياب مشروع وطني لإدارة مورد استراتيجي.

فالهطولات المطرية، رغم تراجع انتظامها في السنوات الأخيرة، لا تزال مرتفعة نسبيًا مقارنة بدول الجوار، والأنهار والأحواض الجوفية والينابيع منتشرة على امتداد البلاد.

غير أنّ هذه الوفرة لم تتحوّل يومًا إلى أمن مائي فعلي، لأن الدولة فشلت تاريخيًا في بناء منظومة متكاملة للتخزين والتجميع وإعادة الاستخدام، وسمحت بهدر الجزء الأكبر من مياه الأمطار عبر الجريان السطحي نحو البحر.

وتشير معطيات مصلحة الأرصاد الجوية اللبنانية، نقلًا عن وكالة “فرانس برس”، إلى أنّ معدلات الأمطار في عامي 2024–2025 تُعد الأسوأ منذ نحو 80 عامًا في سجلات لبنان، إذ انخفض معدل الهطول السنوي في الموسم الماضي بنسبة تقارب 50% مقارنة بالمعدلات التاريخية التي تراوحت بين 700 و1000 ملم.

ويزداد أثر هذا التراجع حدّة بسبب طبيعة المناخ اللبناني، حيث يمتد فصل الشتاء من تشرين الأول حتى آذار، مقابل 6 إلى 7 أشهر جافة، ما يجعل التخزين عاملًا حاسمًا للأمن المائي.

في هذا الإطار، أشار وزير الطاقة والمياه إلى أنّ التعامل مع الواقع المناخي الجديد يفرض اعتماد أولويات عملية واضحة، وفي طليعتها تعزيز القدرة التخزينية بوسائل أقل كلفة وأسرع تنفيذًا، مثل بحيرات التلال، بدل الارتهان الدائم للمشاريع العملاقة.

كما شدّد على ضرورة معالجة ملف السدود غير المكتملة بدل إبقائها عالقة بين النزاعات السياسية والهدر المالي، كاشفًا عن اتفاق مع جهة مانحة لتشكيل لجنة خبراء مستقلة لتقديم المشورة بشأن مستقبل اثنين من هذه السدود، مع السعي إلى دعم مماثل لمعالجة بقية المشاريع العالقة.

في المقابل، تُركت المياه الجوفية عرضة للاستنزاف غير المنظم، مع انتشار واسع للآبار غير المرخصة، في ظل غياب الرقابة وتراخي إنفاذ القانون.

وقد أدى ذلك إلى انخفاض منسوب المياه وتدهور نوعيتها، لا سيما في المناطق الساحلية حيث بات تداخل مياه البحر مع المياه العذبة خطرًا دائمًا.

هذا الواقع ليس نتيجة ظرف طارئ، بل حصيلة سنوات من التساهل السياسي والتغاضي عن التعديات، في ظل دولة عاجزة عن فرض سلطتها على مورد سيادي.الخلل في القطاع المائي ليس تقنيًا بحتًا، بل سياسي وإداري في جوهره.

فالقطاع محكوم بإطار تشريعي متشظٍ، يجمع بين قوانين قديمة غير محدثة ونصوص إصلاحية لم تُطبّق فعليًا، مع تضارب مزمن في الصلاحيات بين الوزارات والمؤسسات الإقليمية والبلديات.

ورغم إنشاء مؤسسات المياه الإقليمية بهدف تحسين الإدارة، بقيت هذه الكيانات ضعيفة ومكبّلة، تعاني من نقص التمويل، وغياب الاستقلالية، وهجرة الكفاءات، وخضوعها لتوازنات سياسية تحدد أولوياتها وقدرتها على الفعل.

يشكّل الهدر الوجه الأكثر فجاجة للأزمة.

فشبكات التوزيع المتهالكة، التي لم تخضع لصيانة جدية منذ عقود، تؤدي إلى خسارة كميات ضخمة من المياه قبل وصولها إلى المنازل.

وفي هذا السياق، اعتبر وزير الطاقة والمياه أنّ حجم التعديات والتوصيلات غير القانونية في قطاع المياه يفوق، وفق بعض التقديرات، ما يحصل في قطاع الكهرباء، لافتًا إلى أنّ معالجة هذا الخلل لا تتطلب استثمارات بمئات ملايين الدولارات، بل قرارًا إداريًا وتنفيذيًا حازمًا يمكن أن يؤمّن كميات إضافية من المياه من دون أعباء مالية كبرى.

هذا الفراغ فتح الباب أمام سوق موازية تتحكم بها صهاريج المياه الخاصة، التي تحولت من حل طارئ إلى ركيزة بنيوية في تأمين المياه، من دون أي رقابة فعلية على الجودة أو الأسعار.

ووفق تقارير صادرة عن “يونيسف” و”واش كلاستر”، يعتمد أكثر من 44% من سكان لبنان اليوم على صهاريج المياه المكلفة وغالبًا غير الآمنة، مع توقعات بارتفاع هذه النسبة مستقبلًا.

وهكذا تحولت المياه من حق عام إلى سلعة، ما فاقم العبء على الأسر في ظل الانهيار المالي وتراجع القدرة الشرائية.حتى في المناطق التي لا تعاني من انقطاع دائم، تبقى نوعية المياه موضع شك دائم.

فالتلوث بات مشكلة بنيوية تطال الأنهار والمياه الجوفية على حد سواء، نتيجة غياب شبكات صرف صحي فعالة، وتعطّل أو ضعف عمل محطات المعالجة التي أُنشئت بتمويل خارجي ثم تُركت من دون صيانة أو تغذية كهربائية مستقرة.

وقد حرم هذا الفشل لبنان من إمكانات استراتيجية لإعادة استخدام المياه في الزراعة والصناعة، وراكم مخاطر صحية وبيئية جسيمة.

وفق تقديرات المرصد اللبناني للمياه لعام 2023، انخفضت حصة الفرد السنوية من المياه إلى أقل من 500 متر مكعب، أي ما دون نصف خط الفقر المائي العالمي المحدد بنحو 1000 متر مكعب، وما دون خط الندرة المائية نفسه.

وهذا يعني عمليًا أن لبنان دخل مرحلة الفقر المائي المدقع.

وتشير تقارير دولية إلى أنّ 1.85 مليون شخص يعيشون في مناطق شديدة التأثر بالجفاف، مع انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على قطاعات الزراعة والصناعة والطاقة والصحة.

في المحصلة، ما يعيشه لبنان اليوم ليس أزمة مياه فحسب، بل أزمة دولة بكل معنى الكلمة.

فالمورد موجود، لكن الإدارة غائبة، والمؤسسات ضعيفة، والقرار السياسي أسير حسابات قصيرة المدى.

ومن دون ترجمة الخطاب الرسمي عن الفرص والإصلاح إلى مسار تنفيذي فعلي، سيبقى لبنان عالقًا في معادلة عبثية تجمع بين وفرة طبيعية مهدورة وعطش اجتماعي متفاقم، فيما تتحول المياه، بصمت، إلى أحد أخطر خطوط الانهيار غير المرئية.

المصدر: لبنان ٢٤ (مهدي ياغي )

المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع "صدى الضاحية" بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و"الموقع" غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى