العنصرية في فرنسا ليست حالة عابرة، وليست محصورة باليمين المتطرف فقط، وهذا ما ظهر من خلال التبرعات التي تمّ جمعها للشرطي القاتل “فلوريون أم”.
بعد ساعاتٍ قليلة من إقدام الشرطي الفرنسي “فلوريون أم” على قتل الشاب نائل المرزوقي عمداً ومن مسافة 30 سنتمتراً، أطلق “جان مسيّحة”، وهو الناطق السابق باسم المرشح الرئاسي المتطرف الشعبوي إريك زمور، حملةً على مواقع التواصل الاجتماعي لجمع تبرعات لدعم الشرطي القاتل.
هدف مسيّحة من هذه الحملة، جمع 50 الف يورو، لكن المفاجأة أنّ الفرنسيين فتحوا حساباتهم بكرمٍ غير مسبوق، فتجاوز عدد المتبرعين الـ35 ألفاً والحصيلة المؤقتة (حتى ظهر الاثنين 3 تموز/ يوليو، تجاوزت المليون يورو.
لم يكن جان مسيّحة، وهو مصري اسمه العربي حسام بطرس مسيّحة، حصل على الجنسية الفرنسية عام 1990، بحاجةٍ إلى التسويق كثيراً لإقناع الفرنسيين بدعم الشرطي القاتل، فالمسألة بديهية بالنسبة لرأي عام فرنسي، يرى القسم الأكبر منه أنّ الشرطي “قام بواجبه”، يكفي أن تتابع وتسمع وجهة نظر الفرنسيين لما يجري في الضواحي وللأسباب التي دفعت أبناء هذه الأحياء الفقيرة للاحتجاج والقيام بأعمالِ الشغب طيلة 6 أيام لتستنتج هذه الحقيقة.
للفرنسيين البيض (ليس الجميع بل الأغلبية) وجهة نظر تستند إلى عنصرية صافية، تعتبر سكان الضواحي مجموعات غوغائية غير متحضرة تستمتع بأعمال العنف، “لا تتمتع بنفس المستوى الحضاري مثلنا” كما قال جوردان بارديلا، الزعيم الجديد لحزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، الذي وصف سكان هذه الأحياء بالوحوش، وهذا الرجل، الذي تفوح منه عنصرية تجاوزت بمستواها عنصرية الزعيم الأسبق لليمين المتطرف جان ماري لون وابنته مارين لوبن معاً، لا يعبر عن وجهة نظر حزبية ضيقة، فحزبه يتمتع اليوم بأعلى نسبة شعبية في فرنسا، تتجاوز شعبية ماكرون والأحزاب اليسارية بأشواط، ولو جرت الانتخابات الرئاسية الآن لفازت مرشحة هذا الحزب مارين لوبن.
العنصرية في فرنسا ليست حالة عابرة، وليست محصورة باليمين المتطرف فقط، بل هي سمة مُتجذّرة في نفوس تتصرف بأريحية تامة وبصدق ومصالحة بديهية مع الذات، هؤلاء يعتبرون الشرطي القاتل “نموذجياً” وقام بواجبه لحماية الناس في مواجهة شخص “خالف أنظمة السير ولم يلتزم بأمر التوقف عندما طلب الشرطي منه ذلك”، علماً أنّه في فرنسا آلاف مخالفات أوامر التوقف سنوياً، تماماً كما فعل نائل، ففي العام 2021 بلغ عددهم 27700 شخص وفي عام 2022 نحو 30 ألفاً، قتلت الشرطة منهم 13 شخصاً معظمهم من أصولٍ عربية أو أفريقية.
الحكومة الفرنسية والرئيس إمانويل ماكرون، يقومان بدورٍ مُحوري في حماية العنصرية ولا سيما في مؤسسات الشرطة المتهمة من قبل الأمم المتحدة بعنصريتها الموصوفة.
ماكرون ووزير داخليته جيارلد درمانان، يرفضان أيّ إشارة إلى عنصرية الشرطة أو عنفها، فالرئيس الفرنسي تخلّى عن وزير داخليته السابق، كريستوف كاستانير بمجرّد دعوة هذا الأخير لإصلاح الشرطة الفرنسية على ضوء العنف المفرط الذي استخدم في مواجهة أصحاب السترات الصفر عامي 2018 و2019، ثم جاء بجيرالد دارمان، الذي هنأ ضباط الشرطة وعناصرها على “تفانيهم في حماية الجمهورية” بعد مهاجمتهم متظاهرين بيئيين احتجوا على بناء حوض مياه ضخم وملئه من المياه الجوفية في 25 آذار/ مارس الماضي، وقد أدّى عنف الشرطة في تلك الحادثة الى سقوط عدد كبير من الإصابات بينهم إثنان كانا في حالةِ الخطر، منع عناصر الشرطة سيارات الإسعاف من الوصول إليهما لنقلهما إلى المستشفى.
دور وسائل الإعلام الفرنسية ربما هو الأسوأ في نشر ثقافة العنصرية، يكفي أن نتابع الحوارات التي جرت خلال الأيام الأخيرة، كان المشهد عبارة عن مسرحية مؤلمة لمهنة الصحافة، انحازت وسائل الإعلام الفرنسية المرئية تحديداً ضد أهالي الضواحي، استضافت ضيوفاً ينتمون بشكلٍ شبه حصري إلى اليمين واليمين المتطرف ومناصري الرئيس، وفي الحالات النادرة، عندما تستضيف ممثلين عن أحزاب اليسار، التي تتطالب بمعالجة الأسباب الجذرية لمشكلة الضواحي أو ممثلين عن هذه الضواحي، يتخلّى المحاور عن مهمته كصحافي ويُشكّل مع الآخرين جبهةً واحدة لشيطنة ما يقوله الرأي الآخر واتهامه بالتحريض على أعمال العنف، كما حصل مراراً مع زعيم فرنسا الأبية جان لوك ملنشون.
فرنسا العميقة، فرنسا البيضاء، لم تعترف يوماً أنّ أبناء الأحياء الفقيرة من ذوي الأصول العربية والأفريقية، هم فرنسيون على قدمٍ وساق كباقي الفرنسيين، وهي ليست جاهزة حتى اليوم للاعتراف بذلك، يبقى هؤلاء من وجهة نظر أغلبية الفرنسيين، غرباء مهاجرين، يُفضل أن يعودوا إلى بلدانهم، كما عبّر صراحةً عن ذلك النائب عن حزب التجمع اليميني المتطرف غريغوري دي فرونا، عندما توجّه في خريف العام الماضي، للنائب عن حزب فرنسا الأبية من أصول أفريقية كارلوس مارتينيز بيلونغو، أثناء إلقاء هذا الأخير كلمته أمام الجمعية الوطنية بالقول: “عُد إلى أفريقيا”.