مقالات

الوداع وجع الروح

لو أن للوداع لغة خاصة لكان حبرها دمع الأمهات حين يُلهب الوجنات، وعطر العاشقات حين يضمخ المناديل، ولكانت صفحاته الأرض التي تسقط عليها أوراق الخريف بصمت، والسماء التي تبكي غيومها قبل أن تتحوّل إلى قوارير من ندى أو إلى سيول جارفة.

الوداع ليس حرفاً يُنطق، ولا كلمة تُكتب، ولا قصيدة تُقال، بل هو جرح ماثل في الوجدان، وآهة تصعد من أعماق الصدر، وانكسار يتجلى في العينين، وشجن يتردّد في الحناجر، وذكرى تنحفر على جدار القلب كوشمٍ لا يُمحى ولا يزول.

الوداع وداعات، حالات مختلفة ومتنوّعة، لكل منها ظروفها وأسبابها وحسراتها المترسّبة في قاع القلب وأعماق النفس. فعندما يكون الوداع نهاية قصة حب، يتحوّل إلى سجل من الأسئلة التي لا جواب لها. كيف تنتهي العهود؟ كيف تمسي القُبل النارية مجرد ذكرى؟ والعناق الحار مسافة جليدية؟ ولهفة اللقاء استدارة ظَهر؟

في لحظة الوداع تصافحُ اليدان برودَ الغروب، وتدرك القلوب أن الحب ليس دائماً جسراً إلى الأبد، بل قد يكون ميناءً نرسو فيه قبل أن نُبحر إلى عالم من الاحتمالات والتوقعات. لكن هذا الوداع يعلّمنا أن القلوب مثل الأرض، قادرة على استنبات زهر جديد حتى من أشلاء الأحلام القديمة، ومن رماد الذكريات الحارقة.

أما في السفر، حيث الوداع مؤقت، فتتجلّى رقّة الحياة. نودّع الأحبة لكي نرجع، ونغادر الأماكن لِنعود. هنا، يصبح الوداع مثالاً للوعد الإلهي: كل نهاية هي بداية جديدة، وكل مغادرة هي احتمال لقاء متجدّد، وكل فراق هو تذكرة بأن الحياة حلقة من الوصول والانطلاق، وكل تلويحة رحيل هي يد ممتدة لميعاد المصافحة.

أما في الهجرة النهائية. فالوداع يشبه انتزاع شجرة من تراب مألوف، لتُغرس في تراب مجهول لا يعرف حكاية جذورها التي تشرّبت روح التربة الأولى وحملت قسماتها وملامحها وتسرّبت في عروقها وأغصانها وبراعمها.

تصاحب الغربة الإنسان كظلّ لا يفارقه، فيحمل معه لغة الوداع كوشم على القلب: يدُ الأم الحانية، رائحة الشارع القديم، أفراح الأهل في بهجة الأعياد، أصوات الأصدقاء الذين تاهوا في زحام المسافات، ونشيد البلاد المشتاقة لذويها.

لكن الهجرة تعلّمنا أن الوداع قد يكون بابَ لقاءٍ آخر مع الذات حين نتصالح مع الغربة، ونصنع من الألم وطناً جديداً، ومن الحنين دافعاً نحو الأمام، ومن الشوق مصعداً للنجاح.

أما في الموت، فيصير الوداع مثل سفر إلى غيبة الأبد، حيث يتحوّل الإنسان إلى ظل تحوطه الأسئلة. هنا، تتكسّر الكلمات، وتصير الأيدي الملتصقة بالجسد البارد صلاة صامتة تُرسَل إلى عالم ما زال غامضاً إلا في حالة الشهادة حيث اليقين بأن مَن يغادرنا صاعد إلى الملكوت والحضرة الإلهية مع الأولياء والصدّيقين. في هذه الحال فقط، يصير الوداع أشهى من اللقاء، لكن يظل للفراق طعم مرّ أياً كانت الوجهة وأينما حطّ الرحال.

الوداع الأخير ليس فقط فراقاً، بل هو بذرة لحياة جديدة تنمو في الذكرى، حيث يصبح الميت حاضراً في كل طرقة على باب، وفي كل نسمة ريح تحمل عطر زمن مضى، وفي كل صوت يحمل بعضاً من صدى الغائبين، وفي كل صلاة ودعاء بأن تكون النفس راضية مرضيّة مطمئنة في سباتها الأبدي إلى ساعة اللقاء المُشتهى.

ما يجعل الوداع بكل ألوانه أخف وطأة أنه ليس نهاية، بل هو حرف من حروف الرحلة الإنسانية. فكما أن الليل يعلّمنا جمال النهار، والمطر يذكّرنا بدفء الشمس، كذلك الوداع يعيدنا إلى أنفسنا، حيث نشعر بثقل الغياب، ونستشعر في الأنفاس الباقية رقة الوجود ونعمة الحياة.

لنودِّع بشجن، ولنسأل بشوق: متى سنعود؟ ومتى نلتقي؟ لأن الوداع، في نهايته، هو ابتسامة تتراقص على شفتي الحياة، تقول: “لا تخف، فالقلوب الكبيرة تعرف أن كل فراق هو لقاء آخر… في زمن ما، أو عالم ما، أو ذكرى ما”.زاهي و

نكتب عن الوداع فيما القرى والمدن تودّع شهداءها قوافل من نور مسبوقةً بصبر الأمهات المجبول بحرقة القلب ولوعة الفقدان، لتنغرس جثامينهم في أرض ترتفع إلى رتبة القداسة من فرط ما ارتوت دماءً زكية طاهرة، واحتضنت أرواحاً حرّة نضرة تبقى حاضرةً فينا مهما أوجعنا الوداع.

زاهي وهبي _ الميادين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى