مقالات

كيف نفي دَيناً كهذا الدين؟

الانتهازيّة سمة بشعة يتّسم بها كثر من بني السياسة في بلادنا. هي ليست ظاهرة جديدة على الإطلاق، فهناك أجيال من الانتهازيين توارثت هذه السمة أباً عن جدّ، ويزعج هؤلاء صعود انتهازيين جدد ينافسونهم في سوق صغيرة نسبيّاً كلبنان.

في الأزمات تكثر فرص الاستغلال والانتهازية، والحروب هي أعنف الأزمات ويظهر فيها أبشع ما في بعض البشر، ونرى أمثلة كثيرة عن ذلك القبح يوميّاً مع تكاثر وتتابع الأزمات. في لبنان اليوم، صغار الانتهازيين يحاولون اغتنام فتات المكاسب التي يتوهّمون أنّ الحرب الإسرائيلية – الأميركية على قوى المقاومة في فلسطين ولبنان أتاحتها لهم.

المتذاكون بين الانتهازيين اللبنانيين اليوم يدّعون الإصلاح وهم يلعبون دور السمسار لكبار جشعِ رأس المال الاستعماري. هؤلاء وكلاء للصناديق الانتهازية التي تنتظر تسوية الدَّين العام لبلدٍ مفلسٍ من أجل السطو على أي إيرادات مستقبلية محتملة ليبقى الشعب يرزح تحت أعباء ديون هُندِسَت لتتوارثها الأجيال. بالنسبة إلى لهؤلاء، الدَّين أرقامٌ في بورصة الأسهم والسندات والمعادن ومعادلات حسابية يقيسون بها ثروات مسلوبة يظنون أنها تثريهم.

لكنّ هناك ناساً من معدن آخر. ناس معطاؤون إلى أقصى حدّ. ناس ثروتهم أنهم يوارون في الثرى لئلّا يقبع شعبهم وأجيالُهُ القادمة تحت أيّ نوع من الذلّ. هؤلاء لا يطالبون بـ«خدمة الدَّين» قبل أصله، وأصلُه أصلاً خدمةُ وإسنادُ أهلِهم بأغلى ما يملكونه من وعيٍ ثوريٍّ وسابق تصوّر وتصميم. كيف نفي دَيناً كهذا الدَّين؟ كيف تفي دَيناً لمن لا يطالبونك بشيء وهُم رحلوا بالآلاف لتبقى قادراً على المضي في مواجهة وحوش الجشع وانتهازيّيه. اليوم ندخل مرحلة جديدة من حرب إبادة مستمرّة تتوحّش أكثر مع تأزّم مرتكبيها.

واليوم وكلّ يوم بعد اليوم مطلوبٌ منّا إيفاء هذا الدَّين الذي لا يُشترى ويباع في أسواق النخاسة الاستعمارية التي تتاجر بشعوبٍ ومستقبلها من أجل مصالح حفنة منتفخة من الجشعين. هذا هو ديننا العام تجاه أنفسنا حتّى آخر نفس.

المرحلة جديدة لكنّ الحرب نفسها، ومجدّداً يُطلب من الشعب أن يختار إمّا أن يموت خاضعاً أو أن يُقتل ثائراً. وهذا خيارٌ حسمه من خَبِر «إسرائيل» بأنّه لن يرتضي ذلّاً مؤبّداً ولا عيشاً مع مشروع إباديّ كهذا مهما علت كلفة مواجهته. التوحّش الأخير الذي شهدناه من العدوّ المأزوم سهّل الخيار على جيلٍ جديدٍ ممّن لن يرتضوا الذل.

عشرات الآلاف من أبناء جيل ما بعد التحرير في عام 2000 أخرسوا بـ«هيهاتهم» هدير المقاتلات الأربع التي أرادت أن تقول في «وداع السيد» إن «إسرائيل» لم تَزُل. فعلاً «إسرائيل» لم تَزُل بعد، والصراع ما زال طويلاً. لكنّ، أولاً، «إسرائيل» حتماً لم تنتصر، وثانياً، حتماً لم ينتصر من يعوّل على «إسرائيل»، رعاة كباراً لها كانوا أم انتهازيين صغاراً.

يقول الكاتب الأميركي جيمس بالدوين إنه كرجل أسود في أميركا لديه حرية للصراع فقط، لكن لا حرية بتاتاً للراحة، ومن لا يجد وقتاً للراحة لا يمكنه أن ينجو في الصراع طويلاً. قد يصحّ ذلك القول إذا كان الصراع فردياً، لكن عندما يكون الصراع جماعياً وعابراً للأجيال، يحق للبعض أن يرتاح بينما يستمر من نجا في الصراع الطويل. لم يختر الشهداء الراحة اليوم لكنهم «كفّوا ووفّوا» في لبنان وفي فلسطين.

أمّا من نجوا فلا راحة لهم بعد اليوم. فكما يختم المقاوم الناجي أبو عبيدة كلماته مقتبساً من الشهيد عز الدين القسام، «إنّه لجهاد، نصر أو استشهاد». هكذا يوفى الدّين.

جمال غصن _ الأخبار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى