منذ مدة، وقضايا نقابة المهندسين تطفو على سطح التساؤلات. حديث عن هدر ـ وليس سرقة – عدم مهنية وغياب الرؤى والخطط الإنقاذية، ما يضع النقابة في مصافّ الدولة، أي، الارتطام الكبير.
المشكلة في الأساس ليست سياسية ولا تحمل نوايا اتهامات بالفساد أو غيرها، بل هي مقسّمة إلى جزءين متداخلين: غياب قطع الحساب والموازنة، وغياب الاستراتيجية لتغطية العجز الكبير الموجود في صناديق النقابة بشكل عام وفي صندوق التقديمات الاجتماعية بشكل خاص، إمّا لفقدان الخبرة، أو الكفاءة، فيما النتيجة واحدة، خوف من تحوّل النقابة الى سفينة “تيتانيك” أخرى.
بدء الأخطاء
تُصنّف نقابة المهندسين كشركة خاصة، لها مجلس إدارتها الذي يتألف من أعضاء مجلس النقابة المنتخببن. ومجلس الإدارة هذا يجري قطع الحساب ويقرّ الموازنة.
تُحتسب السنة النقابية في “المهندسين” من الأول من آذار إلى 28 شباط من العام الذي يلي. ودرجت العادة على أن تكون كل الأمور جاهزة خلال شهر، لإجراء قطع الحساب ووضع الموازنة.
في العام الفائت، أي 2022- 2023، حصلت سابقة، فتم إقرار الموازنة في حزيران بدلاً من آذار، وقطع الحساب في أيلول أيّ بعد إقرار الموازنة.
أما هذه السنة، 2023 – 2024، حتى كتابة هذه السطور، فلا موازنة ولا قطع حساب. ومع دخولنا عيد الأضحى، تكون مرّت أربعة أشهر ودخلنا الشهر الخامس منذ آذار من دون موازنة، علماً أن الاجتماعات مفتوحة، ولم يُصوّت حتى اليوم على العملية المالية.
السابقة الخطرة التي حصلت العام الفائت تم تبريرها بعدم وجود “التدقيق الخارجي External Audit. فنظام المحاسبة العامة في لبنان يفرض على أي شركة ش.م.ل. لديها مجلس إدارة أن يكون لديها قسم المحاسبة الداخلي الخاص بها، بموازاة وجود ما يُسمى مكتب “التدقيق الخارجي”، الذي من أبرز مسؤولياته التدقيق في حسابات الشركة وتحديداً قطع الحساب.
ووفق العادة، بعد أن يقوم مكتب التدقيق الخارجي بعمليته الحسابية يقدّم تقريره للمالكين في الشركة. وفي ما خص نقابة المهندسين، المالكون هم المندوبون، أو مجلس المندوبين، الذين يبلغ عدده نحو 500 مندوب، وهم منتخبون. ومهمة هذا المجلس الأساسية الموافقة على الموازنة وقطع الحساب في آذار، ومن ثم الاجتماع ثانية في أيلول لمراقبة حسن سير الأمور.
إشارة إلى أن مكتب “التدقيق الخارجي” يُعيّنه مجلس المندوبين بعد إجراء مناقصة من قبل مجلس النقابة.
واستناداً إلى هذه المعطيات، إذا كان مبرراً العام الفائت الخروج عن العادات المتبعة في انتظام العمل المالي، بسبب غياب التدقيق الخارجي والخلاف معه، فما هو التبرير اليوم لعدم إجراء قطع الحساب والموازنة حتى الساعة؟
الفجوة
يُظهر تقرير المندوبين جدول أعمال كبيراً من عدة بنود نمتنع عن نشره كاملاً لوجود بنود غير متعلقة بقضيتنا الأساس. ننشر فقط ما يتعلق بالشقّ المالي، وما يتعلق بقطع الحساب.
لكن استطراداً، لا بدّ من الإشارة إلى أن نقابة المهندسين تحتوي على 3 صناديق: الأول: صندوق النقابة. الثاني: صندوق التقديمات الاجتماعية. الثالث: صندوق التقاعد. وهذه الصناديق ولو أنها تتبع للنقابة، إلا أن ذمتها المالية منفصلة تماماً عن بعضها البعض.
بادرت النقابة، إلى إجراء قطع حساب وموازنة للسنة الحالية. فكانت الواقعة الأعظم.
يظهر في الصفحة 95/175 من تقرير المندوبين 2022- 2023، أن العجز “المتوقع” في صندوق التقديمات الاجتماعية سيكون تقريبياً 7 ملايين دولار. والاستنتاج كما قيل حصل على أساس إجراء قطع حساب من قبل أمين المال السابق شارل فاخوري الذي انتهت ولايته في نيسان الماضي، بالاستناد إلى فواتير شهرَي كانون الثاني وشباط التي تصل النقابة أو صندوق التقديمات. وفي المستند المرفق أعلاه يشرح فاخوري سبب العجز.
وبحسب المعلومات، فإن رقم 7 ملايين دولار، كان نتيجة جمع رصيد الصناديق الثلاثة من قبل السيد شارل فاخوري، أي، صندوق النقابة، صندوق التقديمات الاجتماعية، وصندوق التقاعد، وهذا أمر مخالف للقواعد، لأن الصناديق الثلاثة مستقلة ولا يمكن دمج أموالها. فقام فاخوري بجمع وفرة ما حققته باقي الصناديق لتخفيف العجز في صندوق التقديمات الاجتماعية.
إلاّ أنّ المفارقة الكبرى أن مجلس النقابة في اجتماعه الأخير أقر عجزاً بقيمة 10 ملايين دولار، وهكذا، أصبحنا أمام فجوة كبيرة تصل قيمتها إلى نحو 3 ملايين دولار. علماً أنّ مطّلعين على اجتماعات النقابة يتحدثون عن تخبّط فظيع غير مفهوم، وغير مهني، في تحديد رقم العجز، فمرة تحدث المجلس عن عجز بـ8 ملايين دولار، ومرة 9 ملايين دولار، ومرة 12 مليون دولار، ليرسو أخيراً على 10 ملايين دولار. علماً، بحسب ما يؤكد مطلعون على القضية، أن لا شبهات فساد أو سرقة تحوم حول أيّ شخص من الأشخاص، إنّما تأكيد على وجود عدم مهنية في التعاطي مع الاستحقاقات.
فعلى سبيل المثال، وصول أمين المال الجديد علي درويش إلى رقم 10 ملايين دولار كعجز، أمر طبيعي لأنه فصل بين الصناديق الثلاثة وهذا أمر جيد وصحيح، لكنّه في الوقت نفسه، يقول بوجود وِفْر مليون دولار بصندوق التقاعد، بينما المبلغ بحسب مصادر في النقابة يُفترض أن يكون أكثر، والسبب وجود هدر وأموال ضائعة، لا سرقة.
تتحدث هذه الورقة إذاً عن عجز بقيمة 10 ملايين دولار. واستطراداً، فإن إقرار مجلس إدارة النقابة أي قرار يعني التصويت عليه بالأغلبية. وبالتالي، فإن هذا المستند أقر بغالبية 9 أصوات من أصل 16 وتسجيل غياب 3 أعضاء عن الاجتماع.
مسار تراكمي
يشكل العجز في المؤسسات عادة مساراً تراكمياً، وعدم معرفة الرقم الحقيقي من شأنه أن يراكم عجز السنة والسنوات المقبلة. ويظهر من تفاوت العجز في نقابة المهندسين وجود فوارق بملايين الدولارات، فيما الموازنة المتوقعة التي تُناقش اليوم على طاولة مجلس النقابة لا تكفي لدفع أموال المشتركين والمهندسين وعائلاتهم.
وبينما تُظهر بيانات مجلس النقابة وجود عجز يتراوح بين 7 أو 10 أو 12 مليون دولار، يَستخلص تقرير التدقيق الخارجي وجود وفرٍ مالي قدره نحو مليار ليرة.
ومن دون الدخول في أدق التفاصيل التي أوصلت إلى هذا المبلغ، المؤكد، بحسب المتابعين، فإن مكتب التدقيق الخارجي الذي يحتسب الموجودات على أساس لعبة سعر الصرف وأزمة الدولار وصيرفة، ولّد رقماً غير واقعي عن وجود وفر بمليار ليرة، وبالتالي هو يراكم مسؤوليته وبات معرّضاً لمساءلة حسابية وقانونية بحسب مصدر في النقابة. إذ كيف يكون هناك عجز بملايين الدولارات، ومكتب التدقيق الخارجي يخرج بخلاصة وجود أموال بمليار ليرة.
نحو الإفلاس…
بموازاة عملية قطع الحساب والموازنة، تبرز قضية الموجودات التي لا تقل أهمية عن إجراء قطع الحساب والموازنة والمرتبطة بها بنيوياً.
يُظهر تقرير هيئة المندوبين صافي الموجودات في المصارف وخزانات النقابة. وبحسب الجدول، هناك نحو 82 مليار ليرة في صندوق النقابة، ونحو 491 ألف دولار “فريش”.
أما في صندوق التقديمات الاجتماعية، محور تحقيقنا، فتُظهر الجداول وجود نحو مليار ليرة في الصندوق، و117 ألف دولار “فريش”.
والسؤال البديهي، كيف يمكن لصندوق التقديمات أن يملك هذا المبلغ في حسابه، في حين يظهر تقرير العجز وجود أرقام خيالية متفاوتة بملايين الدولارات؟
بالعادة، تُدفع فواتير صندوق التقديمات بعد 6 أشهر من تقديمها. بمعنى، عندما يتم إقفال السنة السابقة في 28 شباط، تحضيراً لانطلاق السنة الجديدة في 1 آذار، يكون هناك فواتير مترتبة على الصندوق هي فواتير أشهر أيلول، تشرين الأول، تشرين الثاني، كانون الأول، كانون الثاني وشباط. وهذه الفواتير من المفترض أن تكون قد خضعت للتدقيق وباتت قيمتها الحقيقية معروفة ومستحقة. لكن تحصيلها سيكون متعذراً نتيجة إفلاس صندوق التقديمات الاجتماعية. نقول إفلاس، لأنه بمجرد إجراء مقارنة بسيطة بين وجود 117 ألف دولار في صندوق التقديمات وعجز يبلغ على سبيل المثال 7 ملايين دولار في الصندوق نفسه، يعني أننا أمام حالة إفلاس، إذا لم تُؤمّن الإيرادات اللازمة لسدّ العجز.
وما يجري اليوم، أن النقابة تعمد إلى تقليص العجز من اشتراكات العام الحالي، في وقت يجب أن تكون هذه الاشتراكات مخصصة لاستشفاء العام نفسه. وبالتالي، استخدام اشتراكات السنة الحالية لدفع مستحقات استشفاءات السنة السابقة يعني أن الصندوق يتجه إلى الإفلاس الكلّي والانهيار في ظل غياب أيّ مداخيل للسنة الحالية. وبالتالي، السؤال الذي يُطرح، عندما تستحق فواتير استشفاء السنة الحالية بعد شهر آب، من أيّ أموال ستُدفع؟.
ولابد من الإشارة إلى أن إيرادات النقابة تأتي عادة من الاشتراكات ومن رخص البناء الضئيلة جداً.
وتبلغ التقديمات الاجتماعية سنوياً نحو 30 مليون دولار، أي نحو 2.5 مليوني دولار شهرياً. معنى ذلك، عند وصولنا إلى شهر آب، تستحق فواتير أشهر آذار، نيسان، أيار وحزيران، والتي تبلغ نحو 10 ملايين دولار، فهل سيكون بمقدور النقابة تأمين هذا المبلغ في شهر آب، والذي يفصلنا عنه شهر واحد بعد؟.
جانب النقابة
لم نرد طرح الموضوع من دون أخذ رأي المعنيين في النقابة وما تقوم به لرأب الصدع وتجنيبها السقوط. فطرحنا على أمين المال علي درويش ثلاثة أسئلة بالتراتبية على الشكل الآتي:
1- لماذا التأخر في إجراء قطع الحساب والموازنة؟
2- لماذا هناك ثلاثة أرقام عجز لدى النقابة، 7،10 و12 مليون دولار؟ وما هو الرقم الصحيح؟
3- كيف سيتم تأمين أموال العجز لهذه السنة طالما النقابة تدفع من اشتراكات هذا العام عجز أو فواتير السنة الماضية؟
درويش الذي أوضح لـ”النهار” ان هناك عملاً يقوم به لمعالجة الأزمة في الفترة المقبلة لكن التوقيت الآن ليس مناسباً للإفصاح عنه في الإعلام، أكد أنّ سقف العجز هو 10 ملايين دولار، وبالتالي قد نصل إلى أقل من ذلك.
وفي ردّ خطي، قال درويش لـ”النهار”: “مجلس المندوبين طلب توضيحات على قطع الحساب وقد أُنجزت. قطع الحساب الفعلي لصندوق التقديمات الاجتماعية ينزل في نهاية آب من كل سنة وهذا الصندوق يشكل 75 بالمئة من الموازنة.
أما بخصوص العجز فقد تم تحديده ويتم التحقيق في الأرقام وهناك مقاربات مختلفة حول كيفية تقييم الموجودات نظراً لأن موازنة النقابة كل سنة مستقلة عن سابقتها. وفي السابق كان العجز يقيد مباشرة على الاحتياط والاحتياط كان من موجودات المصارف وفوائدها الريعية التي تسببت في ضرب الاقتصاد المنتج لصالح ريع المصارف.
أما وقد سطت المصارف وأصحابها على مدخرات الناس وأموال الصناديق الاجتماعية والنقابات، لم تعد هذه العملية ممكنة. فقد خسرت النقابة قيمة مدخراتها بالليرة التي فاقت 300 مليار ليرة ستين مرة، ويستمر اختطاف واحتجاز أكثر من 240 مليون دولار تشكل مع مدخرات الليرة أموال الحماية والرعاية الاجتماعية للعاملين والمتقاعدين. هذه المهمة الشاقة والمقدسة التي تخلت عنها الدولة”.
وأضاف: “وعليه، وإلى حين استعادة الأموال الرهينة المحتجزة، سيتعذر على المهندسين الحصول على ذات المميزات التي كانوا يحصلون عليها قبل عام 2020، وسيكونون مضطرين إلى البحث عن مصادر دخل جديدة غير مصدر الفوائد المصرفية دون تجاهل الطريق الأقصر، ألا وهو استرداد الودائع من المصارف بقيمتها الحقيقية، كون النقابة تدير مدخرات أكثر من 60000 مهندس ومهندسة. وهؤلاء ليسوا مسؤولين عما فعلت المصارف بأموال المدخرات التي أودعت عندها، فهذه مسؤولية المصارف وأصحابها”.
علامات استفهام
مصدر نقابي علّق على كلام درويش، سائلاً: “هل تريدون منّا نصب الخيم أمام المصارف للمطالبة بإعادة الودائع في حين المطلوب معالجات فورية لتفادي الأسوأ وهذه المعالجات ممكنة وقابلة للتطبيق؟ وماذا لو لم تُعَد أموال المودعين إلى أصحابها ونحن نرى التخبط أو الاهتراء الموجود على صعيد المعالجات الرسمية، فلا إنقاذ ولا تعافيَ، ولا خطط استراتيجية، فهل تبقى نقابة المهندسين مرهونة للمجهول والفشل؟ والأكثر، إذا افترضنا أن الحلول “السحرية” وجدت لردّ الأموال في المصارف إلى أصحابها أو سماح التصرف بها، فمن يضمن متى وكيف سيتحقق ذلك؟
ويكشف مصدر نقابي آخر عن وجود نيّة لدى المعنيين بتحصيل “كسر” السنة السابقة من الاشتراكات لوضعه في موازنة السنة الحالية، وهذا مخالف لكل القواعد المالية، علماً أن درويش خلال ردّه الخطي لـ”النهار” أكد أن “موازنة النقابة كل سنة مستقلة عن سابقتها”.
قد تكون المسافة نحو السقوط أو الارتطام الكبير قليلة جداً، من هنا، لا بدّ من وجود من يقول أنا مسؤول وأتحمّل المسؤولية من دون إلقاء تبعات ما يجري على الآخرين أو السنوات التي سبقت، فهذه الثقافة حاربتها 17 تشرين، وإلا “كلّن يعني كلّن” يسري عليكم.